في الفترة ما بين العامين 2010 و2015، تنقل أكثر من 350 قطعة أثرية من آثار المملكة بين المتاحف العالمية من باريس إلى واشنطن مرورا بموسكو وبرلين وبرشلونة. المعروضات والقطع الأثرية التي عرضت أقل ما يقال عنها هو أنها مبهرة والرأي هنا هو ليس رأيي الشخصي بل هو من تقرير لصحيفة نيويورك تايمز من عام 2010 وصف فيه معرض “دروب الجزيرة العربية” أو Routes d’Arabie الذي احتضنه متحف اللوفر بالعرض الأكثر إثارة للإعجاب ذلك العام. فما عرض في ذلك الجناح في اللوفر وبعد ذلك في متاحف الأرميتاج في روسيا وساكلر في واشنطن يدحض كل الآراء المسبقة عن الجزيرة العربية والتي كانت تعتقد بتأخر ظهور آثار الحضارات الإنسانية فيها.
فمن بين ما اشتمله المعرض تماثيل ومنحوتات اكتشفت بالقرب من مدينة حائل تعود بالزمن إلى نحو أربعة آلاف عام قبل الميلاد، ورسومات جدارية من الحقبة الهيلينية تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، إضافة إلى نقوش وكتابات بلغات متعددة منها الآرامية والثمودية الأنماط المبكرة من اللغة العربية المكتوبة. لقد كان المهتمون بالآثار والحضارات القديمة في العواصم الأوروبية محظوظين وهم يتعرفون على شيء من سحر الحضارات التي ظهرت في الجزيرة العربية. كانت فكرة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز من عرض هذه الآثار في الخارج هي إيصال رسالة للعالم بأن إنسان هذه الجزيرة كان وعلى مر العصور عنصرا فاعلا في إثراء الحضارة الإنسانية. وهي الرسالة نفسها التي تبنتها “رؤية السعودية 2030” التي خصت عبر حديث الأمير محمد بن سلمان مع قناة العربية، آثار الجزيرة العربية بنصيب كبير من الاهتمام. فعندما تقر الرؤية بضرورة الاهتمام بآثار وتاريخ الجزيرة فإنها تنتصر لفكرة عالمية إنسان هذه الجزيرة ودوره المحوري عبر التاريخ.
“رؤية السعودية 2030” لا تكتفي بتعريف العالم بالإرث الحضاري الكبير للجزيرة العربية، بل تطلب من هذا العالم الحضور إلى هنا للسياحة وللتعرف على هذه الحضارات من قرب. هذا سيتطلب الكثير من العمل ليس من جانب إنشاء المتاحف فحسب بل حتى من الجانب الثقافي والاجتماعي. فلا يخفى على الكثير وجود شرائح من المجتمع تتحفظ بل وقد تعادي كل ما هو مرتبط بالآثار بأنواعها. فماذا لو أن مؤرخا مرموقا كالراحل كمال صليبي أو غيره من الباحثين العرب والغربيين أراد أن يدعم بحثه الجدلي عن التوراة بشيء من المسح الميداني في الجزيرة العربية؟. لذلك فإن إحداث تغيير في هذه الشرائح المتحفظة قد يحتاج إلى شيء من القوة الناعمة التي تلامس المناهج الدراسية واستحداث كليات ومعاهد متخصصة في الآثار كما سيحتاج إلى إحداث تحسينات في الاقتصاد والبنى التحتية للقرى والمدن النائية التي تضم في جوارها مواقع أثرية.
في محاضرة سابقة لنائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الدكتور علي الغبان، أشار إلى وجود آثار لمستوطنات بشرية بالقرب من مدينة سكاكا ظهرت قبل نحو مليون عام تعود إلى العصر الحجري القديم. وفي معرض دروب الجزيرة العربية في اللوفر، تم عرض أدوات بشرية تعود إلى الفترة ذاتها. كل هذه الآثار وغيرها والتي تمتد منذ العصر الحجري القديم وحتى عصر النهضة السعودية يدل على قدرة إنسان الجزيرة العربية عبر العصور على الانتصار على المناخ والظروف الطبيعية القاسية لهذه البقعة الجرداء شديدة الحرارة. وهذا الإنسان قادر بحول الله على تحدي مستقبل من دون نفط. وهذه الرسالة الكبيرة التي تقدمها “رؤية السعودية 2030”.