أبرز المواديكتبون

الحصافة الدبلوماسية

د. أحمد بن سعد آل مفرح

وجهت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق “هيلاري كلينتون” سفير بلدها في روسيا بقولها: “… عليك بثلاثة أشياء؛ كن قوياً، وتواصل مباشرة مع المواطن العادي بعيداً عن النخب، ولا تتردد في استخدام أي وسيلة  تقنية والتي من شأنها أن تساعدك للوصول إلى أكبر عدد من الناس”.. (كتاب خيارات صعبة).

تذكرت هذا التوجيه الكلينتوني عندما تناول أحد السفراء المعتمدين في المملكة موضوع لامس فيه تقاليد المملكة في الدعوة لمناسبات الزواج، وخرج على العامة بتعليق “تويتري” عفوي من وجهة نظره، وقد يكون  تعليقه أو تساؤله مسوغاً أو مفهوماً لدى بعض المثقفين الذين قد يلتمسون للسفير العذر، ولكنه غير معذور أمام العامة الذين يعتبرون ذلك تهكماً أو تجاوزاً للأعراف والتقاليد أو لثقافة المجتمع وهو يبث على رأس الاشهاد، فوقع السفير هنا تحت طائلة النقد وأحرج نفسه وغيره، وقد خرج في موقفه ذلك عن الحصافة الدبلوماسية بسوء تقدير منه أو ظناً بأنه (يمون) على الشعب بحكم تحدثه للغتهم وارتداء ملابسهم الوطنية وحضور مناسباتهم الاجتماعية..!

أخبار قد تهمك

إن سفير بحجمه وحجم وأهمية بلده ومكانتها التي تربط المملكة بها علاقات سياسية واقتصادية نوعية ومتينة لعقود طويلة قد خذلته دبلوماسيته وأساء تقدير حجم ردود الأفعال، وأبعاد تلك التغريدة، وآمل ألا يكون السفير قد تقمص بموقفه الشخصي سياسة بعض السفراء الغربيين الذين اتخذوا ويتخذون من أوعية التواصل الاجتماعي ومنابر الإعلام الجديد وسيلة “كلينتونونية” لمخاطبة الشعوب بعيداً عن المسؤولين والنخب وتدخلاً في سيادة الدول وتجاوزاً للأعراف والتقاليد الدبوماسية، ما سينعكس سلباً على العلاقات المتينة بين الدول.

لقد قالت العرب “رُب كلمة تقول لصاحبها دعني”… وهي مقولة حكيمة يرددها العرب، وهي تمثل خلق أصيل -الصمت- وأداة ناجعة في ضبط اختيار الكلمات وحسن الحديث والتعامل مع الغير في الظروف المتعددة والبيئات المختلفة، فليس كل ما يعرف يقال، في أي زمان أو أي مكان.

عندما يتقن أي سفير لغة شعب ما، فيظن أنه بذلك قد أتقن التعامل مع ثقافة ذلك الشعب وتقاليده وأعرافه وقيمه، فقد يكن ذلك سبباً في وقوعه في الحرج عندما لا يميز بين اختيار كلمة أو عبارة، أو التعليق على عرف أو تقليد ما، ثم يتحدث عنه في الفضاء المفتوح فيتضاعف الضرر ويتعدى اللباقة، لَيْست الدبلوماسية الرسمية فحسب بل والشعبوية!

إنه مع الانفتاح الذي تشهده المملكة اليوم والترحيب بالسواح والزوار الذين أجزم أنهم يجدون وسيجدون في مجتمعنا الترحاب والكرم والإيثار وبذل ما في اليد لخدمتهم، وعلى رأس هؤلاء الزوار دون شك، أعضاء السلك الديبلوماسي للدول، وفي مقدمتهم السفراء الذين يجوبون المملكة بأمن وأمان وحرية دون قيود، ويقفون على كل مكتسب وطني، ويستمتعون بصحرائها الجاذبة وقمم جبالها الشماء وشواطئها الفاتنة، وأخشى أن بعضهم قد يتعدى حدود مهام عمله فيتدخل فيما لا يعنيه، فحريٌّ بهم أن يقدِّرون أريحية الشعب، وثقة القيادة، وأن يتحلوا باللباقة والحصافة الدبلوماسية في تحركاتهم وتعاملاتهم ومشاركاتهم الثقافية والإعلامية، حتى لا يقع أحدهم يوما فيما يخدش العلاقات الثنائية بين المملكة ودولهم، فشعبنا كريم وشهم ونبيل ومعطاء، ولكنه في الوقت ذاته ليس ساذجاً ولا جاهلاً.

إن سفراء المملكة في كل زوايا العالم يعرفون المعاني النبيلة للعلاقات بين الدول والشعوب وأهمية ذلك، ويقفون عند حدود أعمالهم، ويقدرون مهامهم الدبلوماسية ويدعمون وينفذون توجيهات قيادتنا الحكيمة وسياستها الرزينة، التي لم ولن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتسعى جاهدة حتى مع بعض الدول التي لها حسابات أخرى، بالتعامل بالحسنى وضبط النفس ومراعاة الأعراف والبروتوكولات والتقاليد الدبلوماسية المتعارف عليها دولياً، ويحرصون على تنمية العلاقات وتطويرها مع تلك الدول، ويتمتع السفراء السعوديون بثقافة وقدرات وإمكانات كبيرة تؤهلهم لتقدير المواقف المختلفة ووزن الأمور بما يعزز من مكانة المملكة ودورها ومسؤولياتها الدولية، وبما يحترم سيادة الدول أياً كانت، وفي الوقت ذاته فإن لديهم الخبرة والقدرة على التعامل مع كل من يتجاوز حده، عندما لا يجدي معه طول البال، ولا ينفع معه ضبط النفس، ولا مراعاة المصالح والعلاقات الثنائية!

 

عضو مجلس الشورى السابق

زر الذهاب إلى الأعلى