يكتبون

المشي والتأمل

اقترن حديث الأطباء عن المشي بضرورة تغيير النمط المعيشي الخامل، والوقاية من أمراض العصر. إلا أن تاريخ المشي لم يرتبط عبر العصور بالصحة فقط، فقد كان جزءا من الحياة اليومية، وحينها كانت فوائد المشي للصحة مجرد تحصيل حاصل. بل ارتبط المشي بمعان كثيرة أبعد من الصحة بكثير.

أعود في هذا المقال لأكرر الدعوة إلى المشي ولكن بدافع مختلف، وهو المشي من أجل التفكر والتأمل، تلك الممارسة الراقية التي يحتاجها الجميع، إلا أن الحاجة إليها أكبر في حياة المتميزين والمبدعين القادة والعلماء والمسئولين.

لقد دُعينا للمشي والتأمل في القرآن في الكثير من الآيات التي كررت الربط بين السير في الأرض والتفكر والنظر في أمور الحياة والناس بالبصر والبصيرة؛ قال تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة العنكبوت ٢٠). وقال تعالى: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين” (سورة الروم) كما ارتبط المشي بالتأمل في الحضارات على اختلافها وتباينها.

اطلعت مؤخرا على كتاب بعنوان “المشي وتاريخ الحضارات” لكاتبة التاريخ الأمريكي الحديث ربيكا سولنت، راجعت فيه تاريخ المشي والتفكر والتأمل في مختلف الحضارات، وتأملته في حياة العُبّاد والفلاسفة والرحالة والمؤرخين والناشطين السياسيين والقصصيين، وربطت بين المشي في حياتهم وبين ما أنتجوه للحضارة. كما تابعت مكانة المشي في حياة الرسامين الذين أوحى لهم المشي في الطبيعة بالكثير مما حوته لوحاتهم. وذكرت من أشهر الفلاسفة المشائين سقراط وبلاتو وأرسطو وجون ستيورات ميل، وتولستوي.

تقول الكاتبة سولنت: ألم تر أن التأرجح على قدم أو قدمين نادر بين الحيوانات؟ واستنتجت من ذلك أن المشي والتفكر متلازمان في حياة الإنسان ككائن مفكر. بل يذكر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمشي على ساقين ورأسه الأبعد ارتفاعا عن الأرض.

إن المشي يغيّر علاقة الإنسان بالمكان. فتفكير الإنسان وعلاقته بالمكان تتغير إذا مشى في مكان اعتاد أن يمشيه بالسيارة مثلا، حيث سيعني له المكان شيئا أكبر.

وبعد الكثير من التأمل في علاقة الإنسان بالمشي في الطبيعة، قالت سولنت: “لو كان التأمل في الطبيعة ديناً لكان المشي أهم طقوسه”.

ونحن في عصرنا الحديث الذي اتصف بالسرعة بحاجة إلى وسيلة نبطئ بها إيقاع الحياة لنفكر مليا. تقول سولنت”أنا أحب المشي لأن الانتقال فيه عبر الأماكن انتقال بطيء، واعتقد أن العقل مثل الساقين، يعمل بسرعة 3 أميال في الساعة، أما حياتنا الحديثة فتتحرك بأكبر من سرعة التفكير والتأمل”. وأقول إن فارق الإيقاعين كبير، ولابد من ساعة للمشي والتأمل.

ألا يتكرر في الأفلام أن يظهر الإنسان المشغول بقضية ما، يأخذ في التفكير جيئة ورواحا؟ وألم تعلم أن العديد من الشعراء كتبوا أفضل قصائدهم وهم يمشون؟

يقول جان جاك روسو، الفيلسوف الذي غذت أفكاره السياسية الثورة الفرنسية، يقول في كتابه “الاعتراف”: “استطيع التفكير والتأمل فقط عندما أمشي. وعندما أقف يتوقف ذهني عن التفكير، ذهني يعمل فقط مع ساقي”.

يحكى أن الحكومة المصرية انتدبت أحد سياسييها لتوقيع وثيقة مهمة مع بريطانيا. وتم ترتيب مراسم التوقيع على أن يتم على المكتب الذي كان يستخدمه ألبرت أينشتاين. وعندما جلس المنتدب المصري على مكتب أينشتاين شعر بشيء من الرهبة وقال: ينتابني شعور رهيب وأنا أجلس على المكتب الذي اخترع عليه أينشتاين النظرية النسبية. فقال له أحد كبار السن من الحاضرين: يا بني، إن أينشتين عندما استوحى النظرية النسبية لم يكن جالساً على هذا المكتب. إن نظرية النسبية خطرت له وهو يمشي.

إن العيش بدون المشي يجعل الإنسان محصوراً في بيئات مغلقة (بيت، مكتب، وسيلة مواصلات،….) وحوله الكثير من الشواغل والملهيات. قارن ذلك بالمشي في خلوة. يقول أ. د. زهير السباعي: “درجت على أن أمشي في المتوسط نحو 45 دقيقة بعد صلاة الفجر. أقسم وقتي أثناء المشي إلى ثلاثة أقسام: قسم أثبت فيه ما أحفظ من القرآن، وقسم للتخطيط لمشروع أقوم به، وقسم لانطلاقة الخيال في أي شيء أو لا شيء.

إن تعب المشي وألمه مرتبط بالتواضع والعدل والشعور بالآخرين. والمشي هو الوسيلة الوحيدة للانتقال من مكان إلى مكان والإنسان ملتصق بالأرض باستمرار، ملتصق بالأصل وبالتراب.

وفي معظم الديانات يكون الحج عبارة عن مشوار خاص ومقدس، تتم طقوسه مشيا. بل حتى المغازلة والتسكع في تاريخ شوارع باريس ولندن كانت تتم مشيا، (كان هذا قبل أن نخترع “الترقيم” من السيارات).

أما عند الأطباء فالنشاط الرياضي والمشي يحسن الدورة الدموية ووصول الأكسجين للدماغ مما يزيد من درجة اليقظة والفعالية الذهنية، وينشط عمليات التفكير، ويخفف التوتر العصبي. وقد ثبت علميا أن بعض المقدرات الذهنية تتحسن مع الانتظام في المشي، منه سرعة الاستجابة العصبية، والمقدرات الحسابية. كما ثبت علميا أن المشي المنتظم يحسن الابتكار والخيال.

نشر في مجلة الطبيعة “ناتشر” (مارس 2001) دراسة أثبتت أن أداء المنتظمين في المشي أفضل من غيرهم في الاختبارات العقلية. وجاء في الدراسة أن المناطق الأمامية من الدماغ على وجه الخصوص (الناصية) المسئولة عن التفكير المنطقي والتخطيط والتذكر تتأثر بالانتظام في المشي.

وعادةً ما يكون المشي الفردي مرتبطا بالخلوة والتفكر الحر دون توجيه أو مقاطعة، حيث ينتقل الإنسان بطريقة تلقائية من التفكير في موضوع إلى آخر. وكثيراً ما تتنقل الأفكار أثناء المشي نحو أفكار تعبِّر في العادة عن اهتمامات الشخص التلقائية وأفكاره الخاصة. قارن ذلك بساعات العمل أوالمنزل أومشاهدة التلفاز، وغيرها من الظروف التي يجد الإنسان فيها نفسه بين أفكار الآخرين.

لو يدرك المتميزون والمبدعون القادة والعلماء والمسئولون في عصرنا ما يمكن أن يضيفه المشي والتأمل لحياتهم وفكرهم، لمارسوه ودعوا إليه الجميع، ولما وجدنا منهم من يقول “ما عندي وقت!!!!”.

* أستاذ مساعد في طب الأسرة والمجتمع
رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية للتوعية الصحية “حياتنا”

زر الذهاب إلى الأعلى