يكتبون

بيروت من الوطن إلى المهجر

بصدمة كبيرة وحزن أكبر، تلقى العالم أحداث بيروت الأخيرة، ذلك التفجير العظيم الذي أعادها إلى الوراء عشرات السنين، عندما كانت ترزح تحت حرب أهلية طائفية طاحنة، ما زال المخيال اللبناني يختزل الكثير من مآسيها وظروفها التي عطلت لبنان وجعلته مجرد ساحة لتصفية الحسابات بين قوى آثرت مصالحها الضيقة والزائدة على حساب بيروت الذاكرة والمكان ولبنان الكيان.

لم يسبق لي أن زرت بيروت، فلست من تلك الطبقة المخملية التي شكلها ذلك المكان علما وثقافة وتجربة حياة، وليست لي صداقات حقيقية مع لبنانيين ولا تواصل مع أفراد أو جماعات منهم من خلال العوالم الافتراضية الكثيرة، لكنني أحد الذين تأثروا بالثقافة العربية التي كتبتها بيروت وصدرتها من خلال دور نشرها إلى العالم، لتضيف إلى الكتاب والثقافة قيمة أخرى كونهما دشنا في مطابعها الخالدة بخلود حراكها الثقافي وحراكاتها الاجتماعية والفكرية المتعددة، التي صنع منها التسامح والتعايش لوحة مختلفة الرؤى والأشكال، فأفرزت مجتمعا كالموزاييك في تعدد ألوانه وانسجامه مع التاريخ والجغرافيا وطبيعة الأرض وخصوصية الإنسان.

الانفجار له دلالات كثيرة وتداعيات أكثر، فالإهمال لهذه الشحنة الخطيرة كل هذه الفترة الزمنية يعكس ويؤكد هشاشة الدولة اللبنانية وحكوماتها المتعاقبة، ويؤكد أن هذا البلد ومنذ اغتيال الحريري خرج عن نطاق ومفهوم دولة المؤسسات وأصبح يدار بنظام المحاصصة الطائفية التي رسخت الانتماء للمفهوم الأضيق على حساب الوطن الأوسع والأشمل لبنان.

لعل من أهم تداعيات الانفجار الأخير، مشهد الحضور الفرنسي القوي ممثلا في أعلى رموز السلطة السياسية الرئيس ماكرون، هذا الحضور يعكس مدى تشبث فرنسا بإرثها الاستعماري القديم كدولة شكلت لبنان وصنعت له نظامه السياسي الذي بنته على المحاصصة الطائفية في محاولة لخلق نوع من التوازن النظري، وإن كانت كل المشاهد والعبر تؤكد أن ذلك كان أكبر مأزق وضع فيه لبنان منذ استقلاله حتى اليوم.

ماكرون جال في شوارع بيروت وتعاطى مع سكانها في مشاهد بعضها كان معدا له بعناية ليظهر وكأنه تلقائي صنعه الظرف ومأساته، ليفتح كل الظنون والحسابات ويظهر السؤال الأخطر، هل هذه المشاهد وحملات التوقيع التي أعلنت لصالح عودة فرنسا إلى لبنان هل كل ذلك يعني إحياء لسايكس بيكو ومقرراتها القديمة؟

الوضع في لبنان وفي العالم العربي يشي بتغيرات دراماتيكية قادمة، فسوريا أصبحت من الماضي، والعراق على ذات الخطا يسير، ولبنان ليس ببعيد عن كل ذلك، فليس في دولته ولا في ظرفه المكاني ولا الزماني ما يجعله استثناء عن تلك المآسي التي تحصل حوله، فلبنان من الداخل يغلي، وإنسانه قبل هذه الحادثة وبعدها فقد ثقته في لبنان الكيان الذي أخذته المحاصصة إلى مراحل جديدة ومفصلية من الخراب والدمار، فحجم دمار المساكن وما خسره اللبنانيون في الحادث الأخير كبير جدا وخاصة أن هذا الحادث جاء في وقت والبلد يعاني من أزمات اقتصادية طاحنة جعلت عملته في مهب الريح في انتظار تدخل عربي أو دولي يعيد لها شرعيتها كورقة مالية تستحق البقاء في الجيوب ثمنا لمتطلبات حياة الإنسانية المعتدلة والعادلة والكريمة.

رفيق الحريري ومن ورائه السعودية بنوا لبنان بعد الخراب الذي أعقب حربه الطائفية، وكان اتفاق الطائف فرصة ليلتقط هذا البلد أنفاسه وليعيش مرحلة ثانية كانت بواكيرها تبشر بخير وفير سيصب في صالح اللبنانيين، وفي عام 2005 اغتيل لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري وساءت أحواله وعادت الفوضى إليه لتكتب فصلا جديدا من فصول المعاناة التي هجرت الكثير من شعبه وشردتهم في الآفاق كمهجرين ومهاجرين، ولم يبق إلا لبنان الكيان الذي بات رحيله منتظرا في ظل تصاعد آلامه وانحياز أفراده إلى تحزبات ضيقة كان آخر صورها حملة التوقيعات التي طالت لبنان الكيان وطالبت بفرنسا لتعود كما كانت المتصرف الأول فيه.

نقلا عن makkahnews

زر الذهاب إلى الأعلى