يكتبون

بين الحاير والنظيم …

سمعنا كثيراً عن سجن الحاير وحكايات الزنزانات المظلمة تحت الأرض، ووسائل التعذيب الأليمة التي شاهدنا وشاهد أطفالنا بعضاً منها على الشاشات في سجن أبو غريب وجوانتنامو، وكأننا نشاهد فيلماً بوليسياً دقيق الحبكة قصة و إخراجاً، وقد كنا ندعو الله ألا يجعل لنا أحداً في سجن الحاير المرعب ببيئته المتسخة ومكانه المنزوي وظلامه الدامس وعنابرة الضيقة وزنزاناته المحكمة، وأدوات القمع والتعذيب المؤلمة!.

هذه هي الصورة النمطية عند الكثير منا عن ذلك السجن، تناقلها الرواة غير الثقات وروجت لها أوعية التواصل الإلكتروني والإعلام الجديد، غير أن الواقع مختلف تماماً.

جمعنا الله مؤخراً مع ثلة من الزملاء من أعضاء مجلس الشورى و من الأكاديميين في جولة على سجن الحاير ومركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة في زيارة استغرقت نحو إحدى عشرة ساعة متواصلة، ومن باب إحقاق الحق ودحض المزاعم وتقدير الجهود وتعزيز التطوير لمرافق الإصلاح والمناصحة والرعاية، كانت هذه الوقفات الموثقة – فليس من سمع كمن رأى – وحريُّ بمن يشك أن يقوم بذات الزيارة، فالجميع مُرحب به دون استثناء .

استقبلتنا ساحات السجن الرحبة والحدائق المحيطة بها، وقاعات الاستقبال وبشاشة العاملين الذين تشعر بأنك في مناسبة اجتماعية حيث خلى منها أي مظهر للزيِّ العسكري، فيما عدا البوابات والحراسات، وقُدم عرضا مثيراً للدهشة لمثلي، حيث كنت أظن أننا لن نقف على محتوى ذلك العرض عياناً بياناً وكنت أظنه للاستهلاك الإعلامي وما تقتضيه المصلحة الضرورية لإظهار السجن، وما يقدم فيه بشكل إيجابي، غير أنني ذهلت عندما وقفت على كل شيء بنفسي ودونت ملحوظاتي بدقة.

ففي بداية الجولة وقفنا على المكاتب الإدارية والحقوقية داخل السجن، هئية حقوق الإنسان، والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وهيئة التحقيق والإدعاء العام، وكتابة العدل، ووزارة التعليم العالي، والبنك، هذه ضمن المكاتب الإدارية في مجمع خاص بها، الهدف منها تسهيل كل إجراء يحتاج إليه الموقوف من وكالات شرعية، ودراسة جامعية، وإيداع وسحب وتحويل مبالغ مالية، والجلوس مع الجهات الحقوقية للمرافعة والاستشارة القانونية والتأكد من سلامة التحقيق وإجراءاته، وتضم المكاتب الإدارية عدداً من مكاتب التحقيق التي يتوسط كل مكتب منها طاولة وكراسي من ذات النوعية للمحقق والموقوف والحضور ممن لهم علاقة، يطل على كل مكتب تحقيق من إحدى زوايا السقف كاميرا رقمية عالية الدقة لمراقبة مجريات التحقيق وتسجيلها والتأكد من ضمان حقوق الموقوف والحفاظ على كرامته و إنسانيته من أي تجاوزات قد تحدث من بعض المحققين.

ثم انتقلنا إلى أماكن الزيارات الأسرية المهيأة بمقاعد مريحة والتجهيزات الضرورية من مياه ومرطبات قد يحتاجها الزائر، ويعطى الموقوف ثلاث ساعات ونصف الساعة لكل زيارة وفقاً لجدول معلن، وقد يتخلل ذلك الخلوة للمتزوجين في غرف مغلقة تماماً وعازلة للصوت تحتوى على ما تحتويه غرفة النوم الخاصة من دورة للمياه واحتياجات الاغتسال من فوط ومنظفات ومعقمات!.

ثم كانت الوقفة التالية في البيت العائلي الذي يوجد به سبعة عشر جناح فندقي متميز لا يقل عن الفئة ذات الأربع نجوم، يشرف على البيت نخبة مدربة جداً من الموظفات السعوديات المؤهلات في الفندقة والإدارة وعلم الاجتماع، يحتوي كل جناح على عدد من غرف النوم -حسب حجم العائلة- وصالات الاستقبال و دورات المياه، يتم هنا استضافة أسرة الموقوف المثالي بضوابط محددة ومعلنه وعليها تنافس كبير جداً بينهم، تقضي الأسرة فيه وقت قد يصل إلى ثلاث ليال تستمتع فيه الأسرة بالاجتماع بوليّها و تستمتع بالترفيه المعد في الفناء الكبير الملحق بالبيت العائلي والموزع إلى أربعة أقسام، والذي يشتمل كل قسم منه على كافة ما يحتاجه الأطفال والأسرة من أدوات لعب وترفيه ضمنها ملعب سداسي لكرة القدم! يُوفر في البيت الطعام والشراب المجاني حسب طلب الأسرة وتزود ببعض الأطعمة الخفيفة والمرطبات في ثلاجة الجناح، وفكرة البيت العائلي فكرة رائدة جداً ورائعة بما تعنيه الكلمة.

ثم تجولنا في العنابر الجماعية والفردية حيث يوجد 64 زنزانة فردية و 28 عنبراً جماعياً ، بكل زنزانة وعنبر جميع ما يحتاج إليه الموقوف من وسائل راحة وترفيه بما فيها جهاز تلفزيون، مساحة كل زنزانة فردية لا تقل عن 18 متر وبارتفاع أربعة أمتار بإضاءة وتهوية مناسبتين، بالإضافة لدورة المياه، وفي الغالب يطلب الموقوف السجن الانفرادي، وقد طلب البعض منا الالتقاء ببعض الموقوفين المشهورين غير أنهم رفضوا مقابلة أي زائر، ثم انتقلنا إلى العنبر المثالي والتقينا بعدد من الموقوفين والذين يبدوا عليهم الانسجام والترابط والآلفة ودار بيننا وبينهم أحاديث كان من أبرزها تطلعهم لسرعة البت في قضاياهم، والتوسع في برامج التأهيل وتعزيزها لمواجهة المجتمع، وكذا الإيعاز للإعلام بدعم كل من أكمل محكومتيه وخرج عائداً لمجتمعه تائباً للاندماج ومساعدته على فتح صفحة ناصعة جديدة، كما يأملون أن تتوسع دائرة الصفح من الحكومة ومن المجتمع والحرص على سمعة أسرهم وعائلاتهم، وأحسسنا منهم بالندم، والحسرة والحرقة على التفريط في الأيام السابقة بما لا جدوى منه.

الوقفة التالية كانت عند قسم التواصل ومنها شاشة “نافذة” و الاتصال المرئي، حيث يستطيع الموقوف الاتصال بذويه في غرفة منفردة وبخصوصية تامة بعائلته والتحدث معهم عبر الدائرة التلفزيونية، وكذا يستطيع في غرفة أخرى مجاروه استخدام شاشة “نافذة” والتي تمكنه من إرسال واستقبال الصور والرسائل النصية بحساب شخصي خاص به، ويستطيع استخدام النافذة متى ما أراد حيث تتواصل معه أسرته من خلالها وتزويده بالجديد لديهم موثقاً ومدعماً بالصور واللقطات كما تريد، هذا بالإضافة للهواتف الثابتة حيث يمكن للموقوف التواصل مع أهله عن طريق العديد من الأجهزة الثابتة حال رغبة الأسرة التي تقوم بالاتصال به عن طريق مركز الاتصال بالسجن.

وكانت وقفتنا التالية بالمستشفى الداخلي والذي يحتوي على كافة العيادات وغرفة عمليات وطوارئ وصيدلية كاملة، يقوم المستشفى برعاية جميع الموقوفين بدنياً ونفسياً واجتماعياً، ويتم تقييم حالة كل موقوف جديد والكشف عليه ومتابعة علاجاته وأدويته التي قد تكون موصوفة له من قبل ويحتاجها للأمراض المزمنة أو الطارئة وتوفير كل ذلك.

ثم انتقلنا إلى جناح برنامج المناصحة داخل السجن وهو امتداد لبرامج مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، يتم في الجناح تقييم وضع الموقوف فكرياً ونفسياً ويعد لكل موقوف ما يحتاج إليه من دورات تدريبية وتأهيلية أثناء توقيفه في السجن، ويشرف على إعدادها وتنفيذها مختصون في الشريعة وعلم النفس والاجتماع والتربية وتنمية المهارات الحياتية، وبناء على ذلك التقييم يتم إلحاقهم بالبرامج المناسبة، فمنهم من يلحق بدورة طويلة المدى -فردية أو جماعية- تصل إلى ثمانية أسابيع وذلك حسب حالة كل موقوف، ويتم تأهيل وإعداد المدربين في جامعة نايف وكلية المك فهد الأمنية بالإضافة للتأهيل في الجامعات من خلال برامج التعاون المشترك.

والحاير: يظل سجن.. ولكنه ليس للتعذيب والترهيب.. بل للإصلاح والتهذيب.

زر الذهاب إلى الأعلى