يكتبون

موقع “المناهج الشرعية” من بناء “الفكر المعتدل” و”مواجهة التطرف” ١ ـ ٢

إن بناء الفكر المناسب لكل أمة يعدّ أولوية قصوى للأمم التي تنشد الرقي والمجد وتسابق الخطى نحو بناء الإنسان القادر على مواكبة التطور مع الحفاظ على الخصوصية والهوية في مواجهة سيل متدفق من الأفكار والمناهج والرؤى والأهواء والإشكالات الهائلة، وفي هذا العالم تنهج الأمم مناهج مختلفة وتتبع أفكارا متباينة لكن أفكارها تؤثر في مسيرتها وفي نظرتها للإيمان بالله تعالى وللحياة الدنيا وفي تعاملها مع الأمم الأخرى، والأمة الإسلامية قد حباها الله بشريعة سمحة ذات منهج حكيم يلبي الحاجات ويوافق الحكمة وينتج عنه تحقيق المصالح في الدارين، ولكن الفكر الإسلامي دخلته شوائب وأفكار منحرفة شوهته فلا بدّ من تعليم وإصلاح وتصفية.

إن الفكر الذي تحتاجه الأمة والذي ينبغي دعمه وتنميته والبحث عن وسائل تعميمه ونشره هو الفكر الذي يفيد من إرث الأمة الحضاري وتاريخها العريق ويبني عليه ويتصف بصحة وبعمق الفهم للشريعة و بالمرونة في حدود ثوابت الشرع ومقاصده، فهذا الفكر الموافق لحكمة الشريعة وقواعدها والمتبع لأدلتها ومقاصدها هو وحده الصالح لإخراج الأمة من كبوتها والارتفاع بها نحو العالمية .

وتكاد الكلمة أن تتفق على أن الفهم الصحيح للشرع الكريم والتطبيق الأمثل له هو السبيل لإصلاح حال الأمة و لمّ ما أمكن من شملها الممزق وتوجيه طاقاتها نحو البناء وإيجاد قواسم مشتركة للتعايش والتعاون على البر بين أبناء الشعب الواحد والشعوب الأخرى مع أداء الحقوق .

ومن القضايا التي تحتاج إلى فهم رشيد للأدلة وتطبيقها تطبيقا يتفق مع قواعد الشرع ومقاصده قضية العلاقة مع الآخر، ولتشعبها فسآخذ بعضا من جوانبها المهمة والأساسية . في وقت ما حينما كنت أقف عند معاني بعض الآيات والأحاديث المتعلقة بالولاء والبراء كمثل قوله تعالى(يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) وغيرها من الآيات المتعلقة بالعلاقات مع غير المسلمين ومسائل الولاء والبراء كان يتبادر إلى ذهني سؤال وهو هل هذه القضايا المهمة والمسائل الحساسة واضحة المعالم مستوفاة الأدلة في المناهج الشرعية الحالية في بلادنا الحبيبة وحتى في بلدان إسلامية أخرى مهمة مثل مصر والسودان والباكستان وغيرها ؟.

لقد ظهر لي أن بعض أدلتها المؤثرة في فهمها فهمًا شرعيا صحيحا متوازنا ليست واضحة في أذهان كثيرين، فهناك ضبابية في الرؤية وعدم تكامل للصورة لدى شريحة من الشباب المتدين وغيرهم، وهناك أحيانا تركيز على مذهب ما وإهمال لمذاهب أخرى قد تكون أصحّ دليلا وتعليلا ، وأقرب للواقع ولحكمة الشرع.

فهذه الآية مثلا محكمة لا نسخ فيها عند أكثر المفسرين – كما قال القرطبي – وكما هو اختيار الطبري وغيره، وما تدلّ عليه من التفريق بين الكفار في التعامل دلت عليه أيضا أدلة أخرى صحيحة من الكتاب والسنة، وأما الإحسان للمسالمين من الكفار بالقول والفعل وبالمال ترغيبا لهم ولغيرهم أو دفعا لشرّهم كما في المؤلفة قلوبهم فثابت معروف ومبناه على النظر للمصلحة والاحتياط للمسلمين لا على الهوى ، ومن أسبابه تزيين الشريعة في الأعين وتحبيب الخلق في دين الله، وهذا كله داخل في توضيح موقف الشرع من الآخر . وهنا سؤال كبير حول أثر بعض المناهج الشرعية الموجودة وموقعها من تنمية الفكر الناضج ودعم الاعتدال والوسطية ، وكيف يمكن أن تسهم أكثر في الحماية من الغلو والجهل والجمود.

وعندما ندافع عن كثير من المناهج الشرعية الصحيحة ونقول إنها لا تدعو للغلو ولا للتطرف وإن من يتهمها بتنمية الفكر المنحرف والغالي لا يعلم مضامينها أو ربما يتحامل عليها أو يحمل أجندة خارجية، و أن الأغلب أنه لا يعلم كثير من المنتقدين حقائق ما تتضمنه من الخير فهذا دفاع صحيح، ولكن ليس هذا إلا وجها صحيحا من الحقيقة ولكنه لا يمثل الحقيقة كاملة أو بالأصح ليس كافيا في إيضاح الحقيقة من كلّ وجه فلنكون منصفين ومصلحين في نفس الوقت علينا أن نبحث عن الداء ونصف الدواء بعيدا عن تأثير الأهواء والرغبات، وعليه فلنطرح التساؤل بطريقة أخرى وهو هل تشتمل بعض المناهج الموجودة على ثغرات علمية وعلى أوجه من القصور والنقص في طرْح بعض المعلومات بحيث يستغلّها بعض دعاة الغلو والتطرف؟. أو يقع بعض الدارسين المتحمسين ضحية لهذا القصور وضعف التكامل ونقص المعلومة وإهمال النظر في بعض النوازل والمستجدات، والأخذ ببعض المذاهب دون غيرها ؟ .

وهل تستغل تلكم الثغرات العلمية في الدعاية والترويج لأفكار ضالة ومنحرفة تبتعد عن وسطية الشريعة وتضاد حكمتها، وبمعنى آخر هل تشتمل بعض المناهج عند طرحها للمسائل الكبيرة الحساسة على ما يكفي من الأدلة لفهم هذه الأحكام الشرعية وبعض النوازل فهمًا صحيحا متوافقا مع الدليل والحكمة ؟

إن وضوح تلك المسائل الشرعية والأخذ فيها بالمنهج القويم والوصول إلى التصور الصحيح لما ترسمه الشريعة لهذه الموضوعات المهمة كمثل موضوع الولاء والبراء والعلاقات مع غير المسلمين لا يمكن ان يتم بدون فهم جملة آيات وأحاديث الولاء والبراء فالاقتصار على مثل قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم) وغيرها من الآيات المحذرة من موالاة الكفار والمشددة على ذلك والتي عادة ما يستدل بها على تكفير المخالفين جماعات منحرفة أو دعاة مضلون ممن يتبنون التكفير وما ينبني عليه بعد ذلك من قتل وتفجير واستباحة دماء معصومة ، فالاستدلال بها مع الاقتصار عليها دون غيرها مما يوضح الحق والمنهج الشرعي الصحيح فيه تقصير واضح

فهذه المسائل المهمة والكبيرة لن يوضح معاني أدلتها ودلالاتها المحكمة والمتشابهة والأحكام المترتبة عليها غير الوقوف الكافي على ما جاء في الكتاب والسنن الصحيحة من الأدلة التي توضحها وتخصص بعض إطلاقاتها وتوجه معانيها ثم الوقوف على فقهها على منهج الأئمة المتقدمين والعلماء الراسخين وغيرهم، فمن منهج العلماء المتفق عليها جمع الأدلة التي ترد في الباب الواحد وإعمال جميع الأدلة لا إعمال بعضها وإهمال بعضها، فلا تناقض في الشريعة بل لكل دليل توجيهه ومعناه وفقهه الصحيح، فآيات الولاء والبراء من هذا الباب توجد أدلة توضحها وتبينها وتظهر حكمة الشرع فيها، ومن ههنا نفهم لماذا قد نجد الاستغراب والسرور عند شرائح واسعة من المسلمين حينما يفسر لهم معاني هذه الآيات مجتمعة لا متفرقة، وتوضح لهم سيرة المصطفى صلى الله عليه مع المخالفين من الكفار ومع ذوي العهود منهم من المشركين وغيرهم وانتفاعه والمسلمون بتلك العلاقة معهم، ومعاملته مع يهود خَيْبَر ومع نصارى نجران وغيرهم تبيّن التطبيق المتوازن لمعاني آيات الولاء والبراء، وتوضّح مبلغ حكمة الشريعة ومرونتها ورحمتها ، وحينما توضح للدارسين تلك المعاني ويتجلى لهم أيضا كلام الفقهاء ترتفع عن الأبصار الغشاوة لما يحصل لهم من بيان الحق بأدلته وإيضاح الحكم ببراهينه وحكمته وتعليلاته، وبذلك يطلع طلاب المعرفة على معاني أخرى توضح مقاصد الشريعة فتستنير بذلك البصائر أكثر ويتحرر الفكر من جمود التقليد والهوى والعصبية

يتبع..

*عضو هيئة التدريس بجامعة طيبة
وإمام وخطيب جامع الخندق

زر الذهاب إلى الأعلى