أبرز المواديكتبون

أمي..!!

 د.أحمد بن سعد آل مفرح*

أمي كالحديقة الغناء الوارفة التي تشد الأنظار، للاستمتاع بجمالها الخلاق، وطبيعتها الساحرة، وجداولها الفاتنة، ومياهها الرقراقة، فتأوي إليها الأنفس، تنشد الاستجمام من عناء الدنيا، ومن كدها ونكدها وكدرها، وتشنف الأنوف بشذى عبقها وعطورها الفواحة، ويمتد الجسد المنهك على ضفاف أحضانها الحانية، وتدغدغ الأذان بهمسات مشاعرها الصادقة …هذه هي أمي وأخالها كل أم.

مهما كبرت فأنت في نظرها طفلها الرضيع المدلل، تستمتع بملاطفته وملاعبته بعبارات الأمس البعيد، ومهما علا شأنك فستظل الغر الذي تزجره وتنهره حال الخطأ، ومهما لبست من ثياب وحلل أناقة وزينة، فأنت مكشوف البدن عندها، ومهما تغيرت لغتك وتعدلت لهجتك، فهي لغتك ولهجتك الأولى، ومهما صادقت فأنت تحت مجهر المتابعة المشفق، وعند زواجك فأنت حبها الأول، وحال الخلف فأنت طفلها المدلل، وعند سفرك قلبها يسبقك لمحطتك القادمة، تجده شغوفاً حريصا عليك، وعند سقمك، فأنت وحدك في مكان العناية والرعاية، وعند فقرك، فهي معينك الذي لا ينضب، تبيع كل شيء من أجلك، وحال غناك، تجدها تدعوا لك بالبركة وتمد يدها لتعطيك وتزيدك، لا لتأخذ منك شأن كل من حولك، وعند غضبك تراها تهرول نحوك مسرعة تطفئ كل مصادر أشعال نيران غضبك!

عجيبة أنت يا أماه!.. فأنت لغة صعبة وعتية على الفهم إلا لمن فتح الله بصيرته وقلبه، فلا يمكن لأحدٍ منافستك في حب أولادك، والعطف عليهم، ومن يحاول مسابقتك في عطائك فلن يفلح، فأنت سباقة وإلى العطاء دوماً باذلة لا تترددين في البذل والعطاء، ولا تنتظرين غيرك ليبادر، فانت أم المبادرات، ولا مكان في نفسك أو في مخيلتك للتحايل، أو التردد في خدمة فلذة كبدك، فعطاؤك غير محدود وغير مشروط.

أيها القارئ العزيز: تفقد الأم في محيطك، وأعرف حقيقة مشاعرها، وأبصر عطاءها منذ حملتك إلى يومك هذا، وفكر.. هل يعادلها أحد في ذلك؟ تعطيك يوم حرمك الأخرون، وتقيل عثرتك يوم نال منك الانتهازيون، وتجبر كسر قلبك يوم أوقع بك الشامتون، فهي بالفعل عجيبة في كل أفعالها!.

أنت يا أمي نافذة الحقيقية إلى كل أنثى حولي، نافذتي للتعامل مع أختي وزوجتي وأبنتي، فكيف هو حالي معك!.

كم يُجحف بَعضُنَا في حق أمه! وكم أساء البعض الأدب معها، وكم قَسَت قلوبنا مع تلك النفس الطيبة الأبيّة! وكم غرنا صبرها وتحمل متاعب الحياة لإسعادنا وعلى حسابها! نعتذر عن مشاركتها لحظات سعادتها القليلة بحجج رعايتنا لأطفالنا أو لانشغالنا بأعمالنا، فتقدر الظرف رغم مرارته وتمضي تلك اللحظات التي بخلنا بتخصيص وقتٍ يسيرٍ لإسعادها وإدخال السرور على نفسها الكريمة.

ليتك تعلمين يا أماه أن من قدمتهم عليك يوماً ما قد أداروا ظهورهم عني، ومضوا حال سبيلهم تتلقفهم سكك الحياة الموحشة، وتتوعدهم بالقصاص لك جراء عقوقي المستتر!.

يا ليتك تعلمين يا أمي بأني أصبحت شخصٌ آخر، تعلمت الدرس القاسي ولكن بعد فوات الأوان!
عمدت إلى هاتفي الذي كان يوماً يتراقص طرباً عند اتصالك عليه، وكنت أحيانا أشيح بوجهي حتى لا يرق قلبي، فارد عليك فأنا منغمس في دنياي وسوّفت الاتصال بك، ويمضي يومي دون أن أشعر بعظم الجرم، الذي أرتكبته في ذلك الموقف!.

جاء شهر رمضان الذي كنتِ تبادرين الاتصال بي، وتذكرت حينها ذلك الصوت الشجي الذي يتسلل إلى أعماقي مباركاً وداعياً لي رغم أن الحق لك، وفّقت من غفوتي وعمدت إلى هاتفي وتصفحت قائمة الاتصالات وعثرت على رقمك الذي حفظته باسم مجهول حتى لا يتندر بي الصحب عندما أتواصل أو تتواصلين معي، آثرت أن تكوني مجهولة في تلك القائمة، يا لجهلي!.

حاولت الاتصال بك، ولكن الهاتف مفصول! كررت، مفصول، ثالثة ورابعة، والنتيجة واحدة فلا اتصال بعد اليوم! صمت هاتفك كما صمت حسك، صمتٌ مؤلم يعتصر القلب ويُبكي الحجر، فهل من سبيل إلى اتصال واحد فقط، أسمع صوتك وأُبلغك أني تغيرت وأني بالفعل قد اخطأت في حقك، فأنا أتوق إلى كلمة سامحك الله يا ولدي، فأنا راضية عنك وما قصرت أبدا في حقي!.

أيها المحظوظ بوجود أمك.. لا تعتذر ببعد الخطى عن أمك، ولا بقلة ما في اليد، ولا بظروف العمل، ولا بأشغال الدنيا!! سترحل أمك ولن تبقى طويلًا، أو ترحل أنت ويحل الفراق الدنيوي، وتكشف الأستار عن حقيقة هجران أمك، ويكون الندم والحسرة .. أسألوا من قصّر في حق أمه ثم فقدها! فالله وحده الذي يعلم حاله ومآله.

تفقّد حالك مع أمك… فهل حاولت أن ترد شيئاً من الجميل، مع أنه من المحال مكافأتها حتى ولو عن يوم حمل فقط، فكيف بعطائها الزمان كله!.

راجع علاقتك معها… هل أنت صادقاً مخلصاً محباً لها مبادراً لطاعتها؟ وهل أنت صامتاً مؤدباً في حضرتها؟ فهي السيدة والملكة الأولى في حياتك وهي سبب وجودك بعد الله وهي مرفأُ سعادتك في الدنيا، وهي بابك إلى الجنة بإذن الله.
رزقنا الله بر والدينا أحياء وأمواتاً، وتاب عن تقصيرنا في حقهما.

*كاتب سعودي

زر الذهاب إلى الأعلى