أبرز المواددولي

الاقتصاد الفلبيني .. تضخم خارج السيطرة ونقص الأغذية عقبة أمام النمو

المناطق-متابعات

في أواخر شهر يناير الماضي، نشرت وسائل الإعلام الدولية قصة طريفة من الفلبين، ليكا بيوري عروس فلبينية أقامت حفل زفافها في مدينة إيلويلو، وعندما سألها زوج المستقبل عن نوع الزهور التي ترغب في أن تحملها في يدها عند التقاط صور زواجهما، سألته ليكا “هل بإمكاننا استخدام البصل بدلا من الزهور؟” كانت لإجابتها وقع غريب على العريس، لكن العروس أوضحت له منطقها “بعد الزفاف ستذبل الأزهار وينتهي الأمر بالتخلص منها، فلماذا لا يكون البصل؟ إنه عملي حيث لا يزال من الممكن استخدامه في الطهي بعد حفل الزفاف”.
لم تكن تلك هي القصة الوحيدة عن العلاقة الغريبة بين الفلبينيين والبصل، فقبل شهر تقريبا وقبل ذيوع قصة عروس البصل، تم التحقيق مع عشرة أفراد من طاقم الخطوط الجوية الفلبينية لمحاولة تهريب ما يقرب من 40 كيلوجراما من البصل في حقائب الأمتعة، لم يتم توجيه اتهام للطاقم لكن تم تحذيرهم من تكرار ذلك مستقبلا.
يمكن فهم ما يحدث من منطلق أن البصل مكون أساس من مكونات الطهي في الفلبين، فالطعام الفلبيني يتصف بدرجة ما من درجات الملوحة والبصل يمنحه قرمشة لذيذة وبعض الطعم الحلو لمعادلة الملوحة.
لكن بعيدا عن فنون الطهي في الفلبين، فإن سعر كيلو البصل تجاوز في بعض الأحيان 12 دولارا، ليكون أغلى سعرا من اللحوم ومن الحد الأدنى للأجر اليومي، حيث بات استهلاك البصل رفاهية غذائية بالنسبة لكثيرين.
ربما يكون البصل وارتفاع أسعاره وضعا مبالغا فيه بعض الشيء، لكن الأمر المؤكد أن الفلبين تعاني مخاوف غذائية حقيقية، بعضها يعود إلى الحرب الأوكرانية، وبعضها الآخر يعود إلى الأعاصير.
وقال لـ «الاقتصادية» رالف مايلز الخبير في الاقتصاد الآسيوي، “كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والوقود والأسمدة في الفلبين منذ شنت روسيا حربها الشاملة على أوكرانيا العام الماضي، لكن الفلبين معرضة للخطر بشكل مفرط، إذ يتعين عليها استيراد المواد الغذائية بما في ذلك الأرز وجميع الحبوب مثل القمح لإطعام سكانها الذين يتزايد عددهم، فهي واحدة من أكثر الدول الآسيوية التي تعاني انعدام الأمن الغذائي”.
العام الماضي ضربت 16 عاصفة الجزر الفلبينية وألحقت دمارا جزئيا بالإنتاج الزراعي بلغت قيمته ربع مليار دولار تقريبا، ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية يزداد مستوى الطبقات الفقيرة تدهورا، فالرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس الملقب ببونج بونج لم يقر فقط بارتفاع معدلات التضخم، بل أقر بأن التضخم بات “متفشيا وخارجا عن السيطرة “، فأكثر من مليوني شخص يعتمدون على الزراعة يعيشون الآن تحت خط الفقر، وعدد الفلبينيين الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الطعام في ازدياد، وأكثر من ربع الأطفال دون سن الخامسة يعانون توقف النمو وفقا لبيانات برنامج الغذاء العالمي.
لكن تلك التحديات المعيشية وتأثيراتها السلبية لا تنفي حقائق أخرى ذات طابع إيجابي للاقتصاد الفلبيني.
وهنا يشير الدكتور برودي باركر الاستشاري السابق في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن “تلك الأوضاع المعيشية الصعبة يجب ألا تنسينا أن الأداء العام للاقتصاد الفلبيني، كان إيجابيا العام الماضي، ويتوقع أن يكون إيجابيا هذا العام”.
وقال لـ «الاقتصادية»، إن “الاقتصاد الفلبيني أنهى عام 2022 بأعلى معدل نمو منذ أكثر من 40 عاما، مدعوما بمعدل النمو المرتفع الذي حققه في الربع الأخير من العام الماضي، وبلغ 7.2 في المائة، وبينما كانت الحكومة تتوقع أن تحقق معدل نمو يراوح بين 6.5 و7.5 في المائة لمجمل عام 2022، فإنها تجاوزت المعدلات المتوقعة وحققت نموا بنسبة 7.6 في المائة”.
وحول أسباب هذا النجاح، أشار إلى رفع القيود الخاصة بوباء كورونا، والعودة إلى النشاط الاقتصادي الكامل، ما يوجد طلبا محليا قويا للغاية، ورفع معدلات التوظيف، كما رفع القيود المفروضة على عديد من المدن الصينية الرئيسة نتيجة كورونا ضمن زيادة الصادرات الفلبينية إلى الصين.
الأداء المميز للاقتصاد الفلبيني عام 2022 رغم ارتفاع أسعار المواد الغذائية محليا، يدفع الخبراء إلى التفاؤل بقدرة الفلبين على تحقيق معدل نمو 7 في المائة هذا العام، رغم المخاوف الراهنة لاحتمال تباطؤ الاقتصاد العالمي، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية دون أي بوادر للحل في الأفق، واضطرار البنك المركزي الفلبين في منتصف شهر فبراير الماضي لرفع أسعار الفائدة إلى 6 في المائة، في محاولة للسيطرة على التضخم، ما يعني تشدد في السياسة المالية وتقليص القدرة على الإقراض، ومن ثم إضعاف قدرة القطاع الخاص على التوسع الرأسمالي.
وتسعى الحكومة إلى التغلب على هذا الوضع من خلال ميزانية عام 2023 التي تتميز بزيادة الإنفاق في عديد من المجالات، مستندة في موقفها المالي التوسعي إلى ثقتها بتحقيق معدل نمو سيفوق ما حققته العام الماضي.
لكن الأخبار السارة للاقتصاد الفلبيني لا تقف عند هذا الحد، إنما تمتد أيضا إلى وضع العملة الفلبينية الذي تعزز بشكل كبير منذ أكتوبر 2022، حيث كان يلوح في الأفق سعر صرف 60 بيزو لكل دولار، لكن في الوقت الحالي بلغ سعر صرف الدولار 54.77 بيزو وهو ما يدعم صياغة الحكومة لميزانية 2023.
من جانبه، يرى هاري فيليب أستاذ المالية العامة في جامعة لندن، أن قوة البيزو في مواجهة الدولار قد تضعف القدرة التصديرية للفلبين، ما يزيد العجز التجاري، إلا أن المحصلة النهائية لتنامي قوة البيزو في مواجهة الدولار تصب في مصلحة الاقتصاد الفلبيني.
وذكر لـ «الاقتصادية»، أن “البيزو القوي سيكون مفيدا هذا العام، حيث التضخم مرتفع والعجز التجاري مستمر، ففي شهر ديسمبر الماضي بلغ العجز التجاري في الفلبين 4.6 مليار دولار، ومعدل التضخم تجاوز 9 في المائة، وارتفاع البيزو يعني أن الواردات التي تضعف الميزانية، مثل الطاقة ستسهم بشكل أقل في رفع التضخم، لأن البيزو قوي أمام الدولار”.
واستدرك قائلا “هناك دائما عجز تجاري في الفلبين، خاصة خلال أعوام الرئيس السابق رودريجو دوتيرتي، الذي سعى إلى تطوير البنية التحتية وتعزيز الاستثمار، ما أدى إلى زيادة الطلب على السلع الرأسمالية المستوردة، هذا العجز يتم تعويضه بالتدفقات الكبيرة من دخول الفلبينيين الذين يعملون في الخارج، ويحولون جزءا من مداخيلهم المالية إلى البنوك الفلبينية، حيث تعادل 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعد عاملا مهما في دعم الإنفاق الاستهلاكي المحلي”.
وأشار إلى أن تحويلات العاملين في الخارج ارتفعت بنسبة 5.1 في المائة على أساس سنوي عام 2021، لتصل إلى رقم قياسي بلغ 35 مليار دولار تقريبا، وخلال الفترة من يناير إلى نوفمبر عام 2022 ارتفعت تحويلات العاملين في الخارج بنسبة 3.4 في المائة لتصل إلى نحو 33 مليار دولار”.
ولا شك أن الضغوط الناجمة عن ارتفاع أسعار السلع الغذائية، خاصة على مستوى معيشة الطبقات المتوسطة والفقيرة، تطغى على المشهد، لكن المؤكد أنه خلال العقود المقبلة من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الفلبيني بشكل سريع، وسيرتفع الناتج المحلي الإجمالي من 400 مليار دولار عام 2021 إلى 830 مليار دولار عام 2031، وبحلول عام 2034 من المرجح أن تنضم الفلبين إلى صفوف مجموعة صغيرة من الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ومن بينها اليابان والهند وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايوان وإندونيسيا التي يتجاوز ناتجها الإجمالي تريليون دولار.
من ناحيته، أوضح دانيا مايسن الخبير الاستثماري، أن “تلك التطورات ستؤدي إلى تحول كبير في هيكل الاقتصاد الفلبيني مع توسع في حجم السوق الاستهلاكية المحلية، وسيساعد هذا على تنامي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث تبني الشركات متعددة الجنسيات وجودها المحلي عبر الاستثمار في مجموعة واسعة من الصناعات التحويلية وقطاع الخدمات، وستشهد البلاد زيادة سريعة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 3500 دولار عام 2021 إلى 6400 دولار بحلول عام 2031”.
ولا شك أن المؤشرات إيجابية تجاه الاقتصاد الفلبيني من الآن حتى عام 2035، لكن النظرة إلى الأجل الطويل لا يجب أن تلهي عن الاهتمام بالوضع الآني، فاستقرار سعر البصل وتوافر الأرز أمران حيويان وضروريان لضمان الاستقرار المجتمعي ومن ثم النمو الاقتصادي، فنقص الغذاء لا يمكن تحمله بشكل كبير، وقد يكون بداية لكارثة حقيقية يمكن أن تجعل من النمو الاقتصادي في الأجل الطويل ضربا من ضروب الأوهام.
زر الذهاب إلى الأعلى