أبرز الموادالاقتصاد

الثروة .. خطيئة الماضي واعتزاز اليوم

المناطق_متابعات

هل يعد جمع المال خطأ من الناحية الأخلاقية؟ إذا طرحت هذا السؤال على معظم الغربيين اليوم، فستكون الإجابة “لا”. توسع الثروة هو، في النهاية، سبب وجود التمويل الحديث، سواء أكان ذلك عن طريق صناديق التحوط، أو خطط التقاعد أو غيرها من الاستثمارات.

لكن قبل سبعة قرون في أوروبا، كان الرد سيكون مختلفا – كما يوضح معرض جديد في مكتبة مورجان في نيويورك، عبر النظر إلى ما حدث عندما دخلت النقود لأول مرة في التداول على نطاق واسع في الغرب “أولا باستخدام العملات المعدنية، ثم عبر فكرة العملات الورقية، المستوردة من الصين”. أثارت هذه القفزة التكنولوجية طفرة “غير مسبوقة” في التجارة والنمو الاقتصادي، “ما حول كل جانب من جوانب مجتمع العصور الوسطى”، كما تقول ديردري جاكسون، مساعدة مدير مخطوطات العصور الوسطى وعصر النهضة في المكتبة. لقد كان ذلك يوازي إدخال الإنترنت في القرن الـ15.

وتضيف جاكسون أن الأمولة أثارت أيضا “أزمة قيم”، لأن الكنيسة المسيحية عدت المال خطيئة بطبيعتها. لهذا فإن الأعمال الفنية من تلك الفترة، مثل لوحة “الموت والبخيل” لهيرونيموس بوش، كانت تحتوي على صور مفصلة للجشع.

كانت الطريقة الوحيدة أمام الأغنياء لتجنب الهلاك هي نبذ الترف، أو تقديم التبرعات لدعم الفن، والتعليم والدين. لم يكن رأس المال الاقتصادي يحظى بالإعجاب في حد ذاته – ليس إلا إذا تم تحويله إلى رأسمال “ثقافي”، على حد تعبير المفهوم الذي طوره عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي يشمل رأس المال السياسي، والأخلاقي والاجتماعي أيضا.

وبعد مرور ثمانية قرون، قد تبدو هذه مجرد معلومات تاريخية تافهة. لكن الرسالة الواردة من مكتبة مورجان “التي كانت في الأصل مجموعة شخصية لممول وول ستريت جون بيربونت مورجان” تستحق التأمل اليوم. خاصة في وقت تتزايد فيه الشعبوية السياسية – وبينما يتسابق الأمريكيون لتقديم تبرعات خيرية معفاة من الضرائب قبل نهاية العام.

في العقد الماضي، تفجرت المناقشات حول عدم المساواة في مجتمع الاقتصاد بعد انقطاع طويل، في أعقاب نشر الكتاب الأكثر مبيعا بشكل مفاجئ لـ2014 للخبير الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي. يجادل هذا الكتاب بأن عدم المساواة قد تزايدت بشكل لا يرحم في العصر الحديث لأن عوائد رأس المال الاقتصادي التي يحتفظ بها الأغنياء تواصل تجاوز النمو – وهي وجهة نظر تم تحديها العام الماضي في كتاب من تأليف فيل جرام، وروبرت إكيلوند وجون إيرلي.

لكن رغم أن هذا الصراع حول الأرقام مثير للاهتمام – ومن المرجح أن يزداد حدة – إلا أنه لا يجسد سوى جزء من القصة. وكما يوضح المؤرخ الاقتصادي جويدو ألفاني في كتابه عن تاريخ الأغنياء في الغرب، هناك أيضا قصة مذهلة حول التحولات الثقافية.

من بعض النواحي، يحتفظ الاقتصاد السياسي الغربي اليوم بأصداء خافتة للمشاعر المعروضة في مكتبة مورجان. حيث يستمر الساسة اليساريون في انتقاد النزعة المالية المفرطة والثراء المتطرف. ويستمر الأغنياء في تحويل جزء على الأقل من رأسمالهم الاقتصادي إلى رأسمال ثقافي، وأخلاقي وسياسي. في العام الماضي، على سبيل المثال، قدم الأمريكيون نحو 500 مليار دولار في شكل تبرعات خيرية.

ومع ذلك، يحدد ألفاني اختلافين بارزين بين الماضي والحاضر. أولا، أصبح تكديس الأموال أكثر قبولا الآن “في الولايات المتحدة على الأقل” مما كان عليه. فكر فقط في الكيفية التي يثير بها نشر “قوائم الأغنياء” السنوية الإعجاب والفضول، فضلا عن الغضب. أو حقيقة أنه عندما أجرى دونالد ترمب حملته الرئاسية لـ2016، أشاد بثروته على وجه التحديد كعلامة على النجاح. وكتب ألفاني: “يبدو أن الكثير قد تغير منذ العصور الوسطى عندما كان يطلب من الأغنياء ألا يبدو أنهم أثرياء (…) لأن هذا كان يعد خطيئة بطبيعتها”.

كما يرى ألفاني أن هناك ضغوطا أقل على الأغنياء اليوم لإعادة توزيع ثرواتهم في أوقات الأزمات. ويقول: “لم يعد الأغنياء يقومون بما كان دورهم الاجتماعي الرئيس على مدى قرون عديدة”، مشيرا إلى أنه رغم أن ضرائب الثروة كانت شائعة في الماضي، إلا أنها مثيرة للجدل إلى حد كبير اليوم. وبدلا من ذلك، نشأ نظام بيئي قانوني يعمل على تمكين الأغنياء من خفض فواتيرهم الضريبية إلى أدنى حد ممكن. والمناسبة الوحيدة التي حدثت فيها عملية إعادة توزيع كبيرة في القرن الماضي كانت بعد الصدمة العنيفة التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية.

علاوة على ذلك، أود أن أستشهد بتمييز ثالث “رغم أن ألفاني لا يؤكده”: عملية تحويل رأس المال الاقتصادي إلى رأسمال ثقافي وسياسي أصبحت أكثر إثارة للجدل من الناحية الأخلاقية.

في القرون الماضية، عندما كان الأغنياء يقدمون تبرعات للفنانين، أو المفكرين، أو المشاريع الاجتماعية، كان يفترض أنهم قادرون على السيطرة على المؤسسات التي يرعونها. واليوم، يواصل الأغنياء ممارسة نفوذهم، لكن بطريقة خفية: ففكرة أنه يمكنهم استخدام التبرعات بشكل واضح للسيطرة على السياسة، أو الفن أو الحياة الفكرية هي فكرة مثيرة للجدل. ما علينا إلا أن ننظر إلى ردة الفعل العنيفة التي حدثت عندما دعا المانحون الأمريكيون الأغنياء مثل عمالقة المال بيل أكمان ومارك روان إلى إقالة رؤساء الجامعات.

أو بعبارة أخرى، إحدى السمات المميزة – والمفارقة – لاقتصادنا السياسي الغربي الحديث هي أنه رغم كونك غنيا لم يعد خطيئة بطبيعتها، إلا أن هناك قلقا أخلاقيا بشأن فكرة استخدام الثروة بشكل علني للسيطرة على السياسة، أو الثقافة أو الحياة الفكرية. إنها مفارقة ربما كانت ستجعل حتى جون بيربونت مورجان يضحك بينه وبين نفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى