أبرز المواديكتبون

الفخامة تقتل الإستدامة

محمد العيسى*

مرّتَ فترة من الزمن كنتُ أجتمع فيها مع مجموعة من أصحابي في جلسات أسبوعيه بنظام الدّوريه، حيث كنا نتناوب فيما بيننا على دور استضافة الجلسه كل أسبوع، وكان المستضيف يوفّر للمجموعه الشاي والقهوه والماء.

استمرّت هذه الجلسات المبهجة بانتظام إلى أن قام أحد المستضيفين في أحد الأيام بتقديم طبق إضافي، فقام بطبخ “هريسة” لذيذه أثنى عليها الجميع، ثم وجَدَ مستضيفُ الجلسة القادمة نفسَه مضطرًا لأن يقوم هو أيضًا بتقديم طبق إضافي لا يقل فخامةً عن طبق المستضيف السابق، من هنا بدأت منافسة خفيّه في فخامة مائدة الضيافة بين المستضيفين.

ومع الأيام زاد عدد الأطباق ولكن عدد المستضيفين بدأ في التناقص، فبدأ بعضهم بالإنسحاب تدريجيًا من إستضافة الدوريه، وبعضهم انسحب من المجموعه نهائيًا، وبعد فتره توقفت عجلة الدوريه عن الدوران، وأصبحت اجتماعاتنا البهيجة تلك من ذكريات الماضي الجميله، فالنفس البشرية تنفر من ارتفاع الكلفة والجهد وتميل إلى السهولة واليسر في كل شيء.

لذلك فالإنسان يستمر في ممارسة الأشياء أكثر كلما كانت ممارستها أخف وأيسر على نفسه، ويهرب من الإلتزام بالأشياء كلّما كانت ممارستها أثقل وأصعب على نفسه، وباختصار شديد نستطيع أن نقول إن الفخامة هي من عوائق الاستدامه.

هذه القاعدة رغم بساطتها لا نلتفتُ إليها لذلك نحن لاندرك حجم الأشياء الجميلة في حياتنا، التي توقّفت و فقدناها بسبب حرصنا على الفخامه، فزادت فخامة مجالسنا وأثاثها وموائدها، وانخفض عدد ضيوفنا لأننا صرنا نستصعب فتح هذه المجالس، لأنها أصبحت ذات كلفة عالية في تشغيلها، فندفع بحماس رسوم التسجيل في الصالات الرياضية، ونتحمّس في الذهاب لها والتمرّن فيها في الأيام الأولى، ثم سرعان ما نهرب من الإلتزام بالصاله، لأننا في الأيام الأولى مارسنا أصعب التمارين ورفعنا أثقل الأحمال.. ونتحمّس في بداية ممارستنا للريجيم الغذائي ثم سرعان ما نتركه، لأننا في الأيام الأولى بالغنا في تعذيب أنفسنا بحرمانها من كل ماتشتهيه، وهكذا فنحن نفقد جواهر ولب الأشياء إذا حرصنا على فخامة قشورها و مظاهرها، فأيهما أهم أن تستمر مجالسنا مفتوحةً، وأرحامنا فيها موصولةً، وضيوفنا بها معموره..؟، أم أن تكون مجالسنا و أثاثها وموائدها فخمه.؟ أيهما أهم أن نستمرفي ممارسة الرياضه، أم أن نكسب عضلاتٍ فخمةً في أيامٍ قليله..؟؟

أيهما أهم أن نستمر في نظامٍ غذائيٍ معتدل نأكل فيه كل ما نشتهيه، لكن بلا إسراف، أم أن نفقد كيلوجرامات كثيرة في أيامٍ قليله..؟؟
أنا الآن وأصدقائي بعد أن توقفت الدّورية تفرّقنا وكلٌّ منا لا زال يأكل ألذّ أصناف الطعام في بيته وفي المطاعم وفي كل مكان، إلا أننا فقدنا أثمنَ شيءٍ في اجتماعاتنا القديمه.

لقد فقدنا اللحظات الجميلة التي كنا ننعم بها عندما كنا نلتقي ببعضنا البعض نتواصل ونتسامر ونقوّي أواصر المحبة وعُرى الأخوة بيننا، والسبب هو طبق “هريس” أراد به أحدُنا بكل براءة أن يصنع به بعض الفخامه وماأسوأ الفخامة إذا قتلت الإستدامه.

زر الذهاب إلى الأعلى