أبرز المواديكتبون

الموقف العنصري ضد الجزيرة العربية.. تحليل نفسي وتاريخي

د.عبدالله الرشيد*

‏بات معتاداً أن نسمع بين الفينة والأخرى تصريحات لمثقفين وأدباء تنتقص من حضارة جزيرة العرب، وتزدري تاريخ الجزيرة العربية، وترمي أوصاف الجهل والتخلف على أبناء وشعوب دول الخليج.

‏يلوك هذا الصنف من المثقفين العرب عبارات مكرورة، وشتائم قديمة مملة، يقولون: «إنهم بدو، رعاة الإبل، يعيشون في الصحراء، لا تاريخ لهم ولا حضارة، قيمتهم الوحيدة أنهم يملكون النفط والمال»، اسطوانة مشروخة مهلهلة، ونكتة سَمِجة تستحق الضحك على عقل قائلها.

‏الاختلاف والنقد حق للجميع، لكن المشكلة حين تصدر مثل هذه التصريحات من مثقفين كنا نظن أنهم يفقهون ولو قليلاً في المنطق العلمي، تجد العجب حين تسمع منهم هذه الإطلاقات المتهافتة، والأحكام المجافية للعلمية، التي تفتقر للبحث التاريخي والشواهد والأدلة، وتعبر عن حالة نفسية لدى قائلها أكثر منها كرأي علمي.

‏لست هنا في معرض الرد على مثل هذه الأفكار، فهي لم تطرح بشكل علمي حتى تستحق تفنيداً ورداً علمياً، لكن السؤال المطروح هنا: ما هو سر تلك المواقف الكارهة والمتشجنة من السعودية ودول الخليج؟ لماذا يضمر ويفصح بعضهم عن موقفه الانتقاصي الازدرائي؟ لماذا يستمرون في تكرار مثل هذه المقولات مع أنهم هم أول من يعرف أنها مجافية للواقع؟

وللإجابة على هذه الأسئلة، لابد من تفكيك الحالة النفسية لدى هؤلاء، والعودة إلى الجذور التاريخية والاجتماعية التي كرست هذا الموقف السلبي في داخلهم، والبحث عن تلك اللحظات التاريخية التي انطبعت في وجدانهم وتأصلت في عقلهم الباطن، وجعلتهم أسرى لموقف مجافٍ للواقع والعلم.

‏أهم من بحث هذه الظاهرة وتتبع جذورها هو الدكتور سعد الصويان – أستاذ علم الاجتماع الخبير بحضارة الصحراء العربية- الذي قدم تفسيرات علمية ثمينة متفردة وغاص في أعماق الماضي متتبعاً أصول هذا الموقف وجذوره في التاريخ.

‏في كتابه (الصحراء العربية، ثقافتها وشعرها عبر العصور) يرى الدكتور الصويان أن هذا الموقف السلبي المترسب في عقول أبناء الهلال الخصيب وبلاد الرافدين ينبع من سطوة النموذج الخلدوني وموقفه من البداوة والعرب الذي أصبح نهجاً رسمياً معتمدا في الثقافة العربية الحديثة، «حيث يصور النموذج الخلدوني البداوة العربية التي تقوم على رعي الإبل وكأنها مرحلة بدائية مضادة للحضارة وسابقة لها، وهو في ذلك جاء متأثراً بالصورة السلبية التي بلورتها وكرستها نقوش وكتابات الحضارات النهرية في بلاد الرافدين عن أهالي الصحراء العربية التي كانت في صراع لا ينقطع معهم».

‏كانت (الكتابة) هي الوسيلة الفعالة التي استخدمتها حضارات الهلال الخصيب في صراعها مع البدو، فمعلوم أن الحضارات النهرية هي حضارات كتابية تعتمد الكتابة والتدوين أساساً في الحياة العلمية والثقافية، في حين أن حضارة الصحراء العربية كانت حضارة شفوية تقوم على السماع، ونتج عن ذلك أن قامت الحضارات النهرية «بكتابة التاريخ وفق رؤيتهم للأحداث وتفسيرهم لها، ومن ذلك نظرتهم لسكان الجزيرة العربية التي تغلغلت في الكثير من الكتب والمدونات».

‏يحلل الصويان هذا الموقف المتراكم في ذهنية ممالك الشمال وموقفها من الصحراء العربية، فيقول: «هذا الموروث الكتابي المنحاز ضد البداوة كان هو الأساس الذي قامت عليه الديانات والمدنيات الكتابية اللاحقة في الشرق، بما في ذلك المدنية العربية، التي تصور البداوة على أنها تتنافى مع الحكم المدني الذي يستند إلى قوانين مكتوبة، ومما كرس هذا التصور أن أهل الهلال الخصيب وكذلك الفرس ساهموا مساهمة جوهرية في التراث العربي منذ مراحله المبكرة، وعبؤه بما تشبعت به أذهانهم من تحيزات ضد الجزيرة العربية حملوها من ثقافتهم الأصلية… وهذا يعني أن الحضارة العربية بتحولها إلى حضارة كتابية وقعت هي نفسها في مصيدة الانحياز ضد ذاتها، وخصوصاً بعد نشوء مفهوم الدولة الذي هو على النقيض من مفهوم القبيلة، لذلك نجد ابن خلدون يرى في البداوة نقيضاً للحضارة وضداً لها».

‏خلاصة الكلام كما يؤكد الدكتور الصويان أن الدراسات الأنثربولوجية الحديثة تدحض الموقف الخلدوني من العرب والبداوة، وتهدم تصورات الحضارات النهرية من أهل الرافدين وبلاد النيل والهلال الخصيب، فالأنثربولوجيا الحديثة تؤكد أن الصحراء العربية بسماتها وطقوسها وتقاليدها، هي حضارة أصيلة متفردة مستقلة بذاتها، أبدعت بنفسها وكونت أنظمتها الفريدة ونسجت أعرافها الداخلية بإتقان، وسطرت ثقافتها الشجاعة الجامحة الأخاذة بكل عنفوان، نابعة من قلب الصحراء، منافسة للجوار، قادرة على التجدد والازدهار.

*كاتب سعودي
@alrrsheed

زر الذهاب إلى الأعلى