أبرز المواديكتبون

بين بودابست والرياض.. رحلة سياحية غير

د. أحمد بن سعد آل مفرح

في موعدهما قدما “رست” و “موهاتش” إلى المركز الإسلامي بفيينا قبيل صلاة الجمعة لاستكمال حوار عن الإسلام، كنت في استقبالهما، لفت انتباههما رائحة الطيب والبخور بعدما دخلا المسجد، فأخذا نفساً عميقاً يوحي برضا وبشعور بدا على ملامحهما، هذه الرائحة الزكيّة أعادت لهما ذكرى رحلتهما الأخيرة في مايو الماضي إلى الرياض، وعند دخول المكتب شاهدا عبارة التوحيد التي تزين علم المملكة العربية السعودية في زاوية المكتب الشرقية حينها تحدث “موهاتش” وعبر عن مشاعره بشأن رحلتهما إلى المملكة، ثم قُدمت لهما القهوة السعودية التي نجهزها للزوار بعد صلاة الجمعة وتقدم مع تمرالخلاص، هدية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله، ذكرهم كل ذلك بالبيت السعودي واستقبال الضيوف بالبخور والقهوة والترحاب، ولم يكتما شعورهما بأثر تلك الزيارة التي كانت مفتاحاً لهما للتعرف على الإسلام وعلى الثقافة السعودية، حيث أتيحت لهما فرصة التجوال أياماً في ربوع المملكة واستمتعا بالضيافة في منازل بعض الأسر السعودية، فشاهدوا أصنافاً من الكرم وعاشوا حفاوة استقبال الناس وطيب معشرهم، ليس في الرياض بل وفي جدة والعلا ومابينهما من محطات توقف واستراحات، أدركا أن مستوى الكرم والضيافة المقدم هي سمة متأصلة في المجتمع، فالكل يتسابق على الخدمة ويتنافس على تقديم ثقافة المجتمع وهويته ودينه، الجميع هناك يرغبون الخير للجميع، هذا يأتي بكتب وهذا يأتي بقصة وثالث بهدية، ويأسرك الجميع بطبيعة التعامل الفطري وسمو الأخلاق، وإذا حان وقت الصلاة انفضوا عنك ولبّوا النداء ويعودون وعلى وجوههم علامات الرضا والسعادة، ويعودون لحياتهم الطبيعية دون تكلف أوعناء مع أنهم يصلون خمس مرات يومياً، يعودون لتبادل الضحكات والقيام بالواجبات وتسير حياتهم بشكل سلس وطبيعي.

 

 

 

 

يقول “موهاتش” عشنا في المملكة نحو عشرة أيام جعلتنا نتأكد أن هذا المجتمع وما يعيش فيه من سعادة وطمأنينة يحوم حول سر واحد، واستطعنا بحكم تجولنا ومعرفتنا بالكثير من الثقافات أن الإسلام هو القاسم المشترك لسعادة هؤلاء الناس؛ ويضيف: “نعم أتينا للسياحة وزيارة المعالم في المملكة، ولكن ما المانع أن نعرف أكثر عن الإسلام وثقافة هؤلاء الناس، فقررنا الاستزادة وتجاهلنا أثر الصور الذهنية السلبية عن الإسلام والمسلمين في ماكنتنا الإعلامية الغربية، ففتحنا قلوبنا وصدورنا للحوار وأرخينا أسماعنا للأذان؛ ومتابعة بعض الصلوات ومشاهدة السجود والركوع في المساجد”.

 

 

وتضيف “رست”: “لقد شعرنا بقيمة الحياة ومعنى الروح الحقيقية التي تسري في أجساد هؤلاء الناس البسطاء السعداء وربطنا ذلك بحياتنا في بودابست، وشتان مابين المجتمعين، في مجتمعنا الناس يسيرون فيه كآلة مبرمجين ومسيرين عن بعد يسيرهم غيرهم بريموت كنترول لا يملكون قراراتهم بأنفسهم -على الرغم عن ما يقال أن شعوب الغرب أحرار وديموقراطيين- بل أن مصيرنا وضعناه بيد بشر مثلنا ولكنهم يملكون قوة سلطوية؛ اقتصادية أو دينية أو حزبية، فلا يرحمون ولا يشفقون ولا يقدرون، بينما الناس هنا في السعودية مختلفون، فرابطتهم قوية بالخالق وهو الذي يسير حياتهم كبيراً أو صغيراً، الجميع متساوون وراضون بالعبودية للخالق ولاطاعة لغيره ولا يتحكم في مصيرهم سواه في رحلتهم الروحية والدنيوية، وهذا هو السر الذي نفقده في الغرب، غاب الاهتمام بالروح، فأصبحت المادة كل شيء!.

 

 

 

 

جاءا “موهاتش” و “رست” إلى المركز وعبروا عن سعادتهم منذ الدخول إليه حيث ربطهم المكان بالمجتمع الإنساني السعودي – على حد تعبير رست – وهما هنا اليوم طواعية ورغبة في المزيد من المعلومات، لتأكيد خطواتهم القادمة، وبعدشرح مستفيض حول معنى الإسلام وربطه باستسلام المرء بالخالق وليس بالبشر وأثر ذلك على السلام الذاتي الداخلي والخارجي العام للفرد والجماعة، ومعنى الإيمان وأهميته والذي ينتقل به المرء إلى النطق مشافهة بالشهادة ثم التحول إلى الممارسة العملية للإسلام من خلال الصلاة والزكاة والصيام والحج، وأن الصلاة هي بمثابة الرابط والصلة بين الخالق سبحانه وتعالى والمخلوق دون وسيط ولا معرّف، وهي فعل علني معاش، وبعد الشرح لأركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة، أدركا وتأكدا بأن الإسلام هو خيارهما وأنه لا مجال للتردد أو للتراجع أو حتى التسويف، فقد ثبت لهما من خلال المعايشه المباشرة في المملكة بأن الإسلام دين حق وأنه للجميع وأن الله سأوى بين الكل في الخلق والتكليف والثواب والعقاب، فلا فرق بين أحد ولا فضل لأحد من البشر على أحد، ثم أن السعادة الدنيوية أمر محصل ومكتسب ومقدر للإنسان بشكل ملموس لا مجال لإنكاره، وأن الحياة الأخروية محددة الملامح ودقيقة الوصف في الإسلام وأن البشر مقبلون عليها من خلال الموت الحتمي للجميع، فمن سلم أمره في الدنيا لله وعاش وفقاً لناموسه ومنهجه الذي جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد كفل الله له حياة دنيوية سعيدة ونجاة في الآخرة وفوز ورضوان لا يعدله شيء.

 

 

 

 

وبعد جولة من الأسئلة والإجابات والتعليقات، ما كان منهما إلا أن نطقا بالشهادة بين دموع الفرح وشعور غامر بالسعادة لمس ذلك من كان حاضراً في ذلك المجلس، وعلى الفور شاركت “رست” النساء في المصلى الخاص بهن، وانضم “موهاتش” للمصلين في صلاة الجمعة، وعادا من الصلاة إلى المكتب وهما يشعران بأنهما ليسا على الأرض، وكأنهما يطيران، شعور لم يستطيعا وصفه ولكن عبرت عنه فيض مشاعرهما ومغالبة دموعهما، ثم توج اللقاء بجمعهما بزواج شرعي اكتملت به سعادتهما، فلله الحمد والشكر والثناء الحسن.

 

 

 

 

إن فتح الزيارة للسياح في المملكة آتى ثماراً يانعة لتعريف الناس بدين الله، وثبت للعالم كرم وطيبة وحفاوة شعبنا الكريم وتمسكه بقيمه وثوابت دينه، وتبين أن تلك اللمسات الكريمة والحفاوة الأصيلة قد لامست شغاف قلوب الزوار، واستشعروا عمقها، وعاشوا قيم مجتمعنا وهويته وثقافته دون رتوش أومحسنات وقتية، وعلموا أن الإسلام هو الذي علمنا وربانا على إكرام الضيف وحسن رعايته وأهمية التعايش مع الآخر وإبراز سماحة ديننا الحنيف وحرصه على السلم والسلام وإسعاد البشرية، وهذا مصداقاً لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم القائل : “إنما بعثت متمما لمكارم الأخلاق”، فعلينا أن نحرص على التواصل مع السياح وإكرامهم وأن نبرز لهم محاسن ديننا العظيم وذلك بالتعامل الراقي الحسن ودعوتهم إليه بالحكمة متى ما سنحت الظروف دون جبر أو اكراه، كما وجهنا الله سبحانه وتعالى القائل: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” الآية.

 

كاتب سعودي
مدير المركز الإسلامي في فيينا
@amofareh

زر الذهاب إلى الأعلى