يكتبون

لا تتكهنوا ولا تُجحفوا.. فحادثة خميس مشيط لن تتكرر

محمد بن دوسري

غضب واسع اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، مع تداول فيديوهات تظهر تعرض فتيات في دار الرعاية الاجتماعية بخميس مشيط، للعنف، حيث طالب النشطاء بسرعة فتح تحقيق لمعرفة المتسبب في هذا المشهد، الذي لا يعبر أبدًا عن المجتمع السعودي؛ والذي أصبح – للأسف – مادة دسمة للذين يستهدفون أمن واستقرار هذه البلاد المباركة التي تحرص على حفظ حق المواطن والمقيم وتَضّمن دستورها ونظام الحكم فيها حفظ حق المواطن والمقيم على أرض المملكة العربية السعودية ورعايته وحمايته.

تفاعل إمارة منطقة عسير بتشكيل لجنة لبحث هذه القضية ومن ثم إحالة الموضوع لجهة الاختصاص، وإعلان النيابة العامة التحقيق بشكل رسمي للوقوف على ملابسات الحادث، وتقديمها للرأي العام، كانت في وقتها، حتى لو لم تكونان شافية للمتابع الذي تأثر بهذه الحادثة وبدأ يتكهّن ويتوقع ويصدر أحكامه بناءً على ما استقرأه من مقاطع الفيديو وما يختزله تفكيره تجاه أطراف الحادثة.

وبالعودة إلى الوراء قليلاً، وبما أنني كنت شاهد عيان قريب جداً فإن الحادثة ليست الأولى من نوعها، فقبل 7 سنوات تعرضن فتيات دار الحضانة الاجتماعية في أبها لحادث مماثل، بعد أن قامت بعض فتيات الدار بالاعتراض على قرارات تعسّفية بحقهن – اتضح صحة اعتراضهن عليها فيما بعد لأنها كانت بسبب تصرفات تعسفية وغير نطامية – إلا أنها لا تستدعي أبداً قيام قرابة ٥٠ ضابطاً وفرداً ومدنياً من الشرطة والدفاع المدني ومكافحة الشغب باقتحام الدار بسبب خلاف بسيط بينهن ومساعدة مديرة الدار.

واختصار الرواية أنه نظراً لتراكمات بعض المشكلات التي حدثت داخل الدار ولم يتم تفاديها بأسلوبٍ تربوي واجتماعي ونظامي؛ أدت إلى الواقعة، والتي تتمثل في وجود فجوة بين الفتيات والإدارة في ظل صعوبة التعامل مع فتيات يتيمات لا أبَ لهن ولا أمّ يقومون على تربيتهن بشكل سليم؛ بعد أن عجزت مسؤولات الدار عن القيام بذلك الدور الذي هو من صميم عملهن وأوعزت به الوزارة إليهن؛ حيث تخلل تلك القضية سوء تعامل الإدارة مع الفتيات وحبسهن وبعد أن أفرج عنهن لعدم وجود قضية لمباشرتها ضدهن؛ وهو ما يؤكد الخلل داخل الدار، ثم كانت الشرارة الحقيقة للأزمة مع قرار مديرة الدار بوقف صرف المكافآت المالية للفتيات لمدة 6 أشهر، وكثرة مطالبتهن بحقوقهن دون جدوى؛ وبالتزامن مع دخول الدراسة، وحاجة الفتيات الملحة للمال، ذهبن للحديث مع مساعدة مديرة الدار، في محاولة لإلغاء القرار، إلى أن الأمر انتهى بإبلاغ الأمن بأن الفتيات يحاولن إحراق الدار؛ والذي أعقبه دخول نحو 50 رجل أمن بدون وجود أي عنصر نسائي مرافق من التنمية الاجتماعية أو الشرطة أو الهيئة في دخول الدار، ونتج عنه الاشتباك مع الفتيات ووقوع جروح وإصابات بين الطرفين كانت أيضاً موثقة بالفيديو والصور، ونشرت صحيفة المناطق السعودية تقريراً كاملاً عن الحادثة في حينها وكنت كوني صاحب التقرير الصحافي ضيفاً على برنامج “ياهلا” على قناة روتانا خليجية؛ وحضرت بعد إبلاغ مقام الإمارة كونها التي تتابع القضية في حينه؛ ونوقشت الموضوع على الهواء مباشرة في ثالث أيام الواقعة بمشاركة مديرة الدار التي لم تستطع الدفاع عن موقف الدار ومنسوباتها، وشاهدة عيان من الفتيات، وانتهى الأمر بصدور قرار من الوزارة آنذاك بإعفاء مديرة الدار وإطلاق سراح الفتيات الموقوفات في مؤسسة دار الفتيات وأخذ التعهد عليهم بالالتزام بالنظام وتوجيه مشرفات الدار بحسن التعامل وعدم التجاوز في تطبيق الأنظمة بحق النزيلات.

هذه واحدة من قصص الدور الاجتماعية منذ سبعة أعوام؛ وكنا نتوقع أن كل شيءٍ تبدل نحو الأفضل، حتى جاءت حادثة دار التربية الاجتماعية بخميس مشيط؛ ولأنه لا أحد بالطبع يؤيد التجاوز والخروج عن المألوف؛ ومن الواضح بلا أدنى شك أن هناك تجاوز ومخالفات ارتكبنها فتيات الدار قبل قصة المداهمة التي أشعلت فتيل الانتقاد والشجب والاستنكار الذي ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت قضية رأي عام ليس داخلياً فقط؛ بل أصبح المعارضون وأعداء المملكة في كل بقاع الأرض يقتاتون على مثل هذه القصة التي بلا شك تحصل في أغلب المجتمعات والدول التي تعتبر في مصاف الدول الأولى عالمياً.

وهنا نعود إلى الشرارة الأولى لانطلاق مثل هذه المشكلات؛ وعندما نؤمن أن تصرّف رجال الأمن حين اقتحام الدار بسكنها الداخلي هو ردّة فعلٍ لمخالفات كبرى ارتكبنها الفتيات، بما تضمنته من إساءة للعاملات وللممتلكات العامة دون حصر لتلك التلفيات مهما كان أمرها، فلابد أن نعلم أن ضعف الإدارة وتطبيق الأنظمة في وقتها، وإعطاء الحقوق، والإجحاف في تطبيق بعض القرارات وتراكم المشكلات الصغيرة داخل الدور الاجتماعية يجعلها تتفاقم وتكبر، ويلجأ المتضرر لأي جهة تسمع صوته ويجد فيها صدى لألمه ومعاناته، حتى لو كان ذلك الألم من وجهة نظره فقط، وهذه التراكمات عندما لم تجد الأذن المستمعة والقيام بالواجب المناط بمسؤولي الدار تجاهها فقد فاقم ذلك المشكلة وزادها سوءًا، وخاصة عندما يكون بين المتضررات من ليس لديها ماتخسره، بعد أن فقدت الأمل في الوليّ والراعي والمربي، وانعدام الأسرة الحاضنة؛ والتأثر بحكم قضائي أو عقابٍ استوجبت فرضه عليها لأي سبب من الأسباب، ولذا فإن صاحب المظلومية يرى ما لايراه غيره ويعتقد ما لا يعتقده غيره من حيث حقه في رد الظلم عنه وأن له الحق في وجود ردة فعلٍ كبيرة تتساوى وحجم الضرر الذي وقع عليه وتراكمات ذلك الضرر؛ حتى وإن كان ليس على حق، ولكن يبقى ذلك مايراه وهو مقتنع به.

وعندما لاتجد تلك الفتاة من يسمع لها؛ ويبسّط الأمر بين يديها؛ ويستحوذ على غضبها؛ ويطلعها على كافة الأنظمة التي تحفظ لها حقها عند التجاوز عليها؛ وتعاقبها عند تجاوزها على غيرها؛ وهذا هو الدور المنوط بمديرة ومشرفات وأخصائيات الدور الاجتماعية الذي قد يكون إهمالهن فيه وعدم تطبيق الأنظمة والقوانين ضد كل من يخرج عن النص في وقتها وبعدالة ووضوح؛ فإنه سيكون سببٌ رئيسي في وجود تراكمات لتلك المشكلات الصغيرة التي أودت إلى عصيان وتعدي وتجاوز بعض نزيلات دار التربية الاجتماعية في خميس مشيط الذي استدعى حضور الأمن بهذا الشكل المكثف الذي تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت من العالم قرية صغيرة؛ وجعلت من أبسط وأضعف البشر قوة لايستهان بها في تأليب الرأي العام أو توجيهه نحو الحق أو الباطل بكل سهولة.

وحتى نكن منصفين فإن التجارب الحقيقية التي مارسها وعايشها رجال أمن هذه البلاد خلال عقود طويلة من الزمن فاقت ولله الحمد أكبر الدول العظمى في تحقيق الأمن وعدالته ونقاءه وصرامته في ذات الوقت؛ تلك التجارب التي جعلتنا فخورين قيادة وشعباً في المباهاة بتحقيق أعلى درجات الأمن الداخلي في الوقت الذي عصفت رياح المشكلات سياسياً واقتصاديا واجتماعياً بالعديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، وفي ذات الوقت فإن مملكتنا العربية السعودية قد نجحت في الحفاظ على أمنها واستقرارها والتفاف شعبها حول قيادتها التي حققت للمواطن السعودي مالم تحققه كل دول قائمة الدول الأولى عالمياً مجتمعة طوال عمرها الديموقرطي والملكي والجمهوري.

ولأن القرارات الفردية الغير مدروسة بالتأكيد لا تمثل قرار الدولة، ولا الرأي العام؛ وتبقى تجاوزات وأخطاء في تطبيق الأنظمة ناتج عن عدم الوعي أو عدم الحرص أو عدم الدراسة للحدث قبل وقوعه؛ ومن الواضح جداً خلال مباشرة رجال الأمن لهذه الحادثة انعدام الخطة والترتيب والتنسيق المناسب الذي يحفظ الأمن بشكلٍ فعلي ويضمن الحقوق ويحقق العدالة، مما تسبب في هذه الضجة التي كان الجميع في غنى عنها، وحققت أهدافاً سلبية ينتظرها الكثير ممن حاصرته سمعة هذه البلاد ومكانتها العالية وحب مواطنيها لهذا الكيان الكبير الذي لاتهزّه تصرفات فردية ستكون بالتأكيد تحت يد المحاسبة والعقاب دون مجاملة أو رحمة أو تعاطفٍ مع كائناً من كان.

أمّا من أغلقت في وجوههم السّبلُ، وشحَت عليهم الموارد، ووهُنَ حالهم، واختفى صوتهم، وانكشف أمرهم، بعد أن كانوا أداة بيد غيرهم، ينفثون سمومهم من الخارج نحو هذه البلاد المباركة، فلن يؤثر نعيقهم، ولن يضُر صوتهم، ولن يستمع لهم إلا أمثالهم، ولن يتجاوز أثر خطابهم قراءة تغريداتهم ومغادرة “تويتر” ونسيانهم معها لأنهم لم يكونوا يوماً على حق، وفي اعتقادي أنهم لايعلمون أن ٩٩.٩٪؜ من متابعي حساباتهم هم ممن يبتسم على ترهاتهم وثقافتهم الضحلة وضعفهم ووهن رسالتهم، ثم يقفل جهازه ليخلد للنوم وهو يردد: “الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثير من الناس وفضلنا على كثير ممن خلق”..

وأخيراً: لا تتكهنوا ولا تُجحفوا.. فحادثة خميس مشيط لن تتكرر في عهد سلمان الحزم ومحمد العزم وستكون العدالة فيصلاً، والعقاب صارماً، والنظام سيد الموقف، ومن ليس جديراً بالمكان فلن يبقى فيه، وستكون هذه الحادثة تحولاً جذرياً في أنظمة وهيكلة ولوائح الدور الاجتماعية في المملكة، وستكون الخصخصة “فلتراً” لا يَُمكّن من العمل خلاله في إلا المتمكن القادر المؤهل، وستختفي المحسوبيات والتي تعجُّ بها أروقة الدور الاجتماعية، وسينتهي العمل التقليدي والأنظمة القديمة التي لا تتواكب وحركة التنمية والتقدم وأنسنة بيئة العمل وتحقيق الخدمات الاجتماعية على أفضل وجه.

زر الذهاب إلى الأعلى