أبرز المواديكتبون

وسيبقى الجدل

في مقابل «العقل البيانيّ والبرهانيّ والعرفانيّ» – وفق تصنيف الجابري – جاءت رؤية الدكتور «طه عبدالرحمن» في تصنيف موازٍ وربما مشابه، وهو «العقل المؤيَّد والعقل المسدَّد والعقل المجرَّد» ليبقى العقل قابلًا لمزيد قراءاتٍ يعسر اكتمالُها دون مراعاة النقل الذي يسدُّ تعددية الأسئلة واحتماليات الأجوبة، وهو موقف تراثيٌ أيقن به فلاسفة الإسلام حتى قال الإمام أبو حامد الغزالي 450 – 505هـ في مدخل كتابه التأصيلي في علم أصول الفقه «المستصفى من علم الأصول»: «وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأيُ الشرع»، وقد أبان أسبابَ تأليفه استجابةً لرغبة طلبة العلم، وأضاف: «.. فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه».

** وهنا دلالتان مهمتان؛ تُعنى الأولى بالتركيز على اصطحاب الرأيِ الشرعَ، وهو تعبير ذو أبعادٍ تتجاوز تنظير التوفيق بين الرأي والشرع إلى تصاحبهما، والثانية: استكمال الأدوات المعرفية قبل الدخول في عوالم غامضةٍ تحتاج إلى التعمق البحثي سعيًا إلى بلوغ المقدرة على المحاكمة كي لا يقعوا في معضلة «التهافت» التي أنَّت منها الأزمنة من لدن رواد الفلسفة الطبيعيين الذين سبقوا سقراط حتى فلسفة اليوم المرتبطة بفضاءات التفكير.

** ولعل ما انتُقد به الإمام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) هو ما يستحق عليه الثناء؛ فالفاصل بين دراسة الإلاهيات والإنسانيات كبير، والتفكير بهما بصورة متوازيةٍ خللٌ منهجيٌ من زاوية وعقَديٌ لمن يؤمن بالله، والعدميون أمام مأزقٍ فكري في إخضاع ما لا يقاس لما يُقاس، وهذا لا يقلل من قيمة الفلسفة لكنه يُحجّم دور ثلةٍ من الفلاسفة الذين يظنون أن لديهم المقدرة على إدراك ما لايُدرك، أو كما قال الغزالي في استحالة تطبيق قوانين المرئي والمحسوس على الروحي والمعنوي.

** وفي الضفة الموازية فكرًا المختلفة زمنًا فإن في الفلاسفة من اقتنعوا بنهج الإمام الغزالي أكثر مما استهواهم منهج ابن رشد الحفيد 520 – 595هـ – وهو القاضي الفقيه حيث ظلّ كتابُه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» مرجعًا حتى لمن اختلفوا معه – وقد لقي كتابه: (تهافت التهافت) الذي ردَّ به على الغزالي تحشيدًا وتأييدًا ما يزالان مؤثرين، وحاول الدكتور راشد المبارك 1354 – 1436هـ التوفيق بين الرؤيتين في كتابه : (شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة) إذ لا يعني انتقادُ الفلاسفة التقليلَ من الفلسفة، وإن أُخذ على الغزالي احتماؤه بالتكفير حينًا بجانب المحاجة العلمية أحايين.

** الحوار الثري في هذه الموضوعات الجدلية حيويٌ لو استطاع أفرقاؤه التخلصَ من جاهزية الاتهام وتسرع الأحكام ونجوا من ظلم التصنيف وظلمات التكفير سعيًا لتكثيف النقاش العلمي والتفكير العملي، ودون ذلك لن يستقيم حوار، وستظل قضايا العقيدة عصيةً على الانتقاص أو السخرية أو الإيهام والتدليس على العوام.

** التهافتُ حكمٌ والفلسفة حكمة.

نقلاً عن: Al- jazirah.com

زر الذهاب إلى الأعلى