أبرز المواديكتبون

حالة الجزيرة في عصر الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى

منصور بن مروي*

بعد قيام الدولة الأموية ثم العباسية و ما بعدها بدأت الجزيرة العربية تفقد مقومات الأمن شيئاً فشيئاً حتى تشرذمت سياسياً وتفرقت وأصبحت كل قرية منطوية على نفسها، وصارت الحروب سمة طاغية عليها، مع وجود العلماء والفقهاء حيث المساجد موجودة وشعائر الاسلام تقام وحماية الحجاج معمول بها، وفي كل بلدة قاض وعالم بل واكثر .

فالعلامة والشيخ عبدالله البسام في كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون أشار إلى قرابة مائة عالم وطالب علم في زمن الإمام محمد بن سعود، هذا غير العلماء وطلاب العلم منذ القرن العاشر الهجري والذين يعدون بالمئات، لكن ليس بمقدورهم القيام ببناء كيان سياسي يحفظ الأمن.

أخبار قد تهمك

ورغم وجود الحكام الجبريين و العيونيين واهتماماتهم العلمية والاقتصادية وحمايتهم للحجاج إلا أن مسألة الأمن الشامل معدومة ولم يتطلع لها بالشكل الواسع إلا الإمام محمد بن سعود.

إن المطلع على تاريخ الإمام محمد بن سعود تجده قبل لجوء الشيخ إليه قد وحد قرى الدرعية تحت إمرته كتطلع لقيام كيان سياسي يحفظ الأمن ويوحد الصف، بل وصل الأمر إلى أوسع من ذلك؛ فقد ناصَرَ دهام بن دواس حتى بسببه صار دهاماً أميراً رسمياً على الرياض، ثم ناصَرَ أهل منفوحة حين هاجمهم دهام، وهذا دليل تميز ابن سعود عن غيره وإيمان القوى المحيطة بمكانته، فهو كبير المنطقة التي يلجأ إليه من يخاف الخطر ودليل على سيادته.

بل إن لجوء الشيخ محمد بن عبدالوهاب إليه لنصرته يؤكد تميزه عن غيره وعدم خضوعه لأي سيادة.

بدأ الإمام محمد بن سعود بالدرعية وما حولها حتى أمّن المنطقة ثم توسع بعد ذلك ليكمل سياسته و سيطرته كي يحمي المنطقة من أي قوة مناوئة لها واستمر في ذلك، كلما ضم مدينة وطاعت له قبيلة كان لزاماً عليه حمايتها ممن حولها، وهذا لا يتم إلا بالتوسع جغرافيا القائم على العمل السياسي الذي هو رأس الهرم لبناء الدولة إذ أن البناء السياسي جزء كبير من الدين، ولكل من أراد إخراج منطقته من تراكمات قديمة عليه أن يبدأ بالعمل السياسي الذي هو بناء الدولة وحمايتها وتوسعها، فقد كانت الجزيرة في عهده بحاجة لمن يقوم بلم شتاتها وبنائها ولا يقوم بذلك إلا من لديه طموح وهمة وتميز عن اقرانه؛ استطاع الإمام باني التأسيس وبعده أئمة الدولة السعودية الأولى؛ توظيف الشيوخ والعلماء وأهل القرى والبوادي في مشروعهم السياسي كل بدوره؛ فالشيخ يفتي ويعلم ويدوّن؛ حاله كحال أي عالم في كل وقت، وأهل القرى والبوادي يشاركون في الحروب وهو العمل الأهم لبناء الدولة فتضحياتهم بمالهم وأنفسهم و ولائهم هي أداة هامة من أدوات البناء؛ والقائم على كل ذلك وصاحب المشروع السياسي هو الإمام محمد بن سعود ومن أتى بعده، ولولا الله ثم حماية الإمام محمد بن سعود للشيخ ‏محمد بن عبدالوهاب لما انتشرت كتبه ورسائله؛ ولما استطاع أن يقوم بما قام به من تعليم ودروس وتدوين وفتيا.

ولكي يتضح المقال؛ فحينما بدأ الإمام تركي بن عبدالله ثم ابنه الإمام فيصل بن تركي لم يحركهم شيخ علم ورجل دين بل لم يعمل هؤلاء شيئاً في قيام الدولة الثانية؛ ولم يحركوا ساكنا، فمن حمل هذا العبء هو الإمام تركي ومن بعده، وكانت أدواتهم في ذلك الحروب والعمل السياسي والتعامل مع القوى المحيطة وغيرها بالإدارة والدهاء وبالحرب والهدنة والتفاهم والدبلوماسية، وكان رجال الجزيرة عتاد ذلك العمل السياسي الحربي، وهذا ينطبق تماما على ماقام به الإمام محمد بن سعود.

وحين قام الملك عبدالعزيز ببناء الدولة السعودية الثالثة انتهج ذلك النهج؛ فكل هذا يدل أن قيام الدولة وتوسعها كان لهدف سياسي.

وعن انتشار مسألة الشرك فإن ذلك ناتج عن أمرين هما:
1. اعتقد العوام والجهلة من بعض فئات الإخوان خلال تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبدالعزيز أن من خالفهم كافر، فكفّروا كل الجزيرة طالما أنهم لم يكونوا في صفهم، ولهم في ذلك قصصاً ومواقف تبين تشنجهم وعاطفتهم المخالفة وجهلهم وبساطتهم التي لايقبلها عاقل والمخالفة للواقع، وقد نهاهم الملك عن ذلك، وهذا تماماً ينطبق على واقع البسطاء والعوام في عهد الإمام محمد بن سعود، إذ روجوا أن أهل الجزيرة كلهم مشركين، وانتشرت هذه الخرافات من القصاصين والبسطاء والعاطفيين وأعطت صورة غير صحيحة.

2. المتعصبين من بعض طلاب العلم، ومنهم : المؤرخ ابن غنام، حيث يحصر وصف المسلمين على أئمة الدولة السعودية والمقاتلين معهم فقط، ومن ذلك إطلاق وصف الشهيد على من قتل منهم دون غيرهم ومنه قوله: استشهد من المسلمين فلانا وفلاناً وقتل من غيرهم فلاناً وفلاناً، وأحيانا يذكر عددهم فقط يفرّق في الوصف بين الفريقين كما أشرت سابقاً.

ويقول ابن غنام لمن دخل في تبعية الدولة: (وفي هذه السنة دخل في الاسلام أهل بلدة كذا و قبيلة كذا) والصواب أنه دخول سياسي في تبعية الدولة)؛ فالجميع مسلمون.

وكان دهام بن دواس في بعض السنوات تابعاً سياسياً للدولة السعودية وحين خرج عن تبعيتها وصفه ابن غنام بقوله: (ارتدّ دهام بن دواس عن الإسلام)، فهل كان كافراً ثم أسلم ثم كفر؟ كل هذا غير صحيح، إنما ميل للاستقلال وليس ارتداداً عن الدين.

فعبارات ابن غنام لا تحسب على الدولة وقادتها حيث الطرح المتشنج في الأسلوب والحكم؛ ولا يتحمل تبعاته سوى من كتبه فقط.

ومن استخلاصات الدارسين لتاريخ الجزيرة؛ وأن الدولة السعودية الأولى قامت لباعثٍ سياسي وهدف أمني مايلي:

1. ذكر المؤرخ مقبل الذكير في العقود الدرية ما مفاده أن حروب ابن سعود ودهام هدفها دوافع أمنية سياسية ولم تكن دينية.

‏ 2. وقال أحمد الكاتب في كتابه الدولة السعودية؛ أن العداوة بين دهام وابن سعود ليست دينية بل سياسية.

3. قال جون فلبي: إن الدافع السياسي، لا الحماس الديني هو الذي أوجد الامبراطورية خلال حكم تركي وابنه فيصل)، وهو بحد ذاته امتداداً لمنهج أسلافه وهدفهم السياسي.

تعلم الشيخ محمد بن عبدالوهاب الدين في نجد والحجاز والأحساء والبصرة فهل تعلم من الكفار؟! بالطبع لا، بل من المسلمين، مما يؤكد وجود الإسلام وتعاليمه وانتشار مدارسه وعلماءه؛ بل إن الشيخ رحمه الله بنفسه يقول: نحن لانكفر المسلمين بل نكفر المشركين).

وعبارته تلك تدحض وجود الشرك في عموم أهل الجزيرة وتدل بوضوح على وجود الإسلام وأهله، وهو الصحيح.

وتوضيحاً لذلك: فهل أبوه كافر وهل أخوه سليمان كافر الجواب لا.
وهل من العقل وبراءة الذمة أن نجزم بكفر أهل الجزيرة كلها..! وكأنه لا يوجد مسلماً في ذلك الوقت إلا شخصاً أو أشخاصاً معدودين، وغيرهم عكس ذلك؟

نسمع بوجود السحرة وأهل الشعوذة في العهد الحالي ببلاد المسلمين، بل وحالات فردية من الملحدين، فهل يصح لنا تعميم الحكم على الجميع، طبعاً لا يصح،
إذاً هو نفس الحال سابقاً، فالشرك في عهد عصر الدولة السعودية الأولى قليل وحالاته فردية وأهل المنطقة أهل إسلام.
بل إننا نجد إرثاً علمياً لعلماء ذلك الوقت لا يقرّون بمقولة انتشار الكفر في نجد والجزيرة وهم طرف في المعادلة وشهود عيان.

*محامي و باحث تاريخي

زر الذهاب إلى الأعلى