يكتبون

“البروباغاندا”

هي كلمة تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور، وتوجيه مجموعة مركزة من الرسائل لتغيير آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص، وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات، وهذا المصطلح بمعنى مُبسط يعرض المعلومات بهدف التأثير على المتلقي المستهدف، وكثيرًا ما تعتمد “البروباغاندا” على إعطاء معلومات ناقصة، وبذلك يتم تقديم معلومات قد تكن كاذبة بعد الامتناع عن تقديم معلومات كاملة، وهي تقوم بالتأثير على الأشخاص عاطفيًا عوضًا عن الرد بعقلانية.

 

أصل كلمة “بروباغاندا” جاء من اللاتينية “كونغريقاتيو دي بروباغاندا فيدي” وتعني “مجمع نشر الإيمان”، وهو مجمع قام بتأسيسه “البابا غريغوري” الخامس عشر عام 1622م، ويقوم على نشر الكاثوليكية في الأقاليم، وتعني باللاتينية نشر المعلومات دون أن يحمل المعنى الأصلي أي دلالات مُضلّلة، والمعنى الحالي للكلمة نشأ بعد الحرب العالمية الأولى عندما أصبحت مصطلحًا مُرتبطًا بالسياسة.

أخبار قد تهمك

 

ومن الأمثلة السياسية التي وجهت أفكار الناس “عالميًا” نحو معلومات كاذبة وغير صحيحة، حديث نائب الرئيس الأمريكي “ديك تشيني” في خطابه في أغسطس 2002م عندما قال: “لا شك لدينا أبدًا في أن لدى صدام ‏حسين أسلحة إبادة جماعية”، وحديث وزير الخارجية “كولن بأول” في خطابه بمجلس الأمن الدولي في نيويورك فبراير 2003م عندما قال: “إن لدى صدام حسين الكثير من بكتيريا الجمرة الخبيثة، لذا على الولايات المتحدة ضرب العراق لأنها دولة خطرة”، وحديث رئيس الوزراء البريطاني “توني بلير” أيضًا والذي قال: “العراق يحتوي على أسلحة بيولوجية وكيماوية جاهزة للتشغيل في غضون 45 دقيقة”..!!

 

هذا الكلام تم بثه على الكثير من وسائل الإعلام العالمية والعربية بشتى الطرق والرسائل وبشكل متكرر لعدة أيام، وبعد ذلك تم ضرب العراق في مارس 2003م، بعد أن اقتنع كل العالم بأن لدى العراق أسلحة دمار شامل، والحقيقة التي نعرفها جميعًا و تم إثباتها واقعيًا لكل العالم أيضًا، أنه لا أسلحة دمار ولا إبادة في العراق، وهو ما دفع “كولن بأول” لاحقًا للقول: “حديثي وصمة عارٍ في تاريخي المهني”، وهنا نجد أن هذه “البروباغاندا” كلّفت العراق ملايين الأرواح.

 

وقد توسعت استخدامات مصطلح “البروباغاندا” في العصر الحديث بعد أن جاءت التقنية الحديثة لتكون معززًا لها، للتأثير في الرأي العام، وتوجيه أفكار وقرارات الناس السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، وذلك باستخدام تقنيات وأساليب سيكولوجية عديدة منها: تسمية الأشياء بغير مسمياتها، وإطلاق الشعارات، والاستفادة من الشخصيات اللامعة، والتظاهر بمنح فرص الحوار والتعبير عن الرأي لجميع الاتجاهات، والتأكيد بدلاً من المناقشة والبرهنة، وإثارة الغرائز وادعاء إشباعها، وادعاء الموضوعية رغم غيابها، وتلميع الذات، وادعاء التغيير والتجديد، والحديث بأسلوب العارف المطّلع الذي يملك المعلومة، واستغلال المجتمعات لتوظيف الأفكار الجديدة وتنميقها وإقناعهم بأهميتها، حتى وإن كانت مجرد فقاعات تتطاير بلا فائدة، واستغلالهم لأهداف ومصالح معينة.

 

وبما أن لكل شخص رأيه الخاص، فإنه وعلى أرض الواقع، من الصعب أن تستطيع تكوين رأي في كل المسائل يناسب كل الناس، وبالذات في المسائل المعقدّة أو الشائكة، لذا فمن الملاحظ بأن المجتمع أصبح يتبنى آراء صانعي القرار، ويأخذها على محمل الحقيقة بلا جدال، وينقلها من دائرته الصغيرة لدائرة أوسع في مجتمعه، وبرهانُه الوحيد على مصداقيتها أنها جاءت على لسان المسؤول الفلاني، أو أكدها الوزير الفلاني، أو تبناها المدير الفلاني، وفي الحقيقة أنها لا تعدوا كونها “بروباغاندا” تمت دراستها بعناية، قد يكون الهدف منها إحداث تغييرات بسيطة لا تؤثر كثيرًا، ولكنها تكتفي في أغلب الأحيان بتوجيه الأفكار، وإشغال المجتمع، وإحداث تأثير مؤقت لأهداف معينة.

 

في مجتمعنا الحالي ومع ثورة التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت “البروباغاندا” مهنة احترافية، تستهلك جهودًا كبيرة على أجندات عمل الكثير من المسؤولين، ولم تقف عند ذلك، بل إنها للأسف طرقت أبواب العوام، وأصبح البعض يتبنون “البروباغاندا” لإثارة الناس نحوهم، ومحاولة تلميع أنفسهم، والخروج أمام الآخرين بصورة مختلفة عن واقعهم، إما من خلال حديثهم عن أنفسهم، والــ”أنا” التي تتغلب عليهم، أو من خلال الظهور بصورٍ لا تعكس واقعهم، أو من خلال تبني أفكارٍ وأطروحاتٍ هي آخر اهتماماتهم مع أنفسهم، ولكنهم يتبنونها كشعارات تظهرهم بشخصيات مختلفة أمام الغير.

 

أشكال “البروباغاندا” المقيتة تجاوزت إلى المناسبات والولائم، والمزايدة في الكرم والبذخ الممقوت، وتعدّت إلى القصائد الشعرية، والشيلات، وأصبحت تعيش على التصفيق والثناء على كل ما يعبر أمامك، حتى أنه لم يُعد مستحبًا إبداء الرأي أو النصيحة، أو الملاحظة، أو التعقيب على أي أمرٍ يخالف توجه أصحاب تلك الأفكار، ولم يبقَ إلا أن يصبح الجميع ممن يهزّون رؤوسهم حتى ينالوا التقدير والاحترام، بعد أن أصبحت الحقيقة مرّة، والصدق عيباً، والتّلوُّن صفة محمودة للأسف.

 

أصحاب “البروباغندا” تبنّوا هذا المصطلح، وعملوا به، وبدلاً من أن يمرروه على الناس، صدقوه أولاً، رغم أن أغلبهم لدية سيرة عطرة، وحضورٌ رائع، وعلاقات واسعة، ومنجزات تشهد له، وليسوا في حاجة لزيادة لفت النظر إليهم، ولكنهم للأسف أصبحوا متأثرين بهذا المصطلح، ويدافعون عنه، بعد أن جعلوه مبدأً من مبادئهم، ووصفة تلازمهم، حتى وصل الأمر ببعضهم أن يخسر صديقه أو قريبه لأنه خالفه الرأي، بعد أن أصبح ممن يعملون وفق المبدأ الأحمق الذي يحمل كل معاني الذات المنغلقة والأنانية المفرطة “إن لم تكن معي فأنت ضدي”، هذا المبدأ الذي يكرّس ثقافة الكراهية، ويصادر حرية الرأي، ويحارب الحيادية ويخلق إشكاليات دائمة باعتباره طارداً للتعايش السلمي والوسطي وقبول الآخر.

تغريده:

لمن لا يعتقدون أنهم من محبي “البروباغاندا”.. تلفتوا حولكم، وراجعوا تصرفاتكم، فكلٌّ منّا يعتريه بعض من الأنا، وشيٌ من “البروباغاندا” دون علمه، وثقوا أنكم ستكونون أجمل بدونها، بعد أن تتطهروا من خبثها، فقد عمّت سوءاتها، وقلّت خيراتها”.

رئيس التحرير

زر الذهاب إلى الأعلى