يكتبون

“مشاهير” أم “مجاهيل”

لا أعتقد أنني سأجد التصفيق الحار على ما سأكتبه، ولن تصلني عبارات التأييد التي يجدها بعض كتاب الرأي عندما يناقشون موضوعاً اجتماعياً يهم السواد الأعظم من الناس، لكنني أجزم أن النسبة الأكبر من القراء سيوافقوني الرأي، أما أولئك الذي أكتب عنهم، فستومئُ لي أعينهم خلسة، مؤيدين لرأيي وإن كانوا لن يصرّحوا برأيهم، إما لغوايتهم نحو فعله، أو لعدم رغبتهم في التصريح بتأييدهم وهم يناقضونه فعلاً وعملاً، وستغلب أفعالهم على قناعاتهم للأسف، وسيتوقف تفاعلهم مع ما قرؤوه فور انتهائهم من القراءة، هذا إن كانوا أكملوا قراءة المقال حتى النهاية.

 

لقد عشنا ولا زلنا نعيش حرباً باردة استطاع خلالها “المجاهيل” اكتساح “المشاهير”، وقرروا استغلال الاسم وتغيير الفعل، فكانت النتيجة وخيمة، بعد أن استنزف “المجاهيل” المبادئ والقيم والأخلاق، ونادوا بأنفسهم “قدواتٌ” لمستقبلٍ مظلم.

أخبار قد تهمك

للأسف.. فإنه لم يعُد للخارجين عن المألوف أماكن مخصصة تسترهم، وتُخفي تصرفاتهم التي تعكس ضحالة فكرهم، وانحدار أخلاقهم، وسوء أدبهم، وما نراه يومياً، بل في كل دقيقة على مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة الـ”سناب شات” والـ “تيك تك” يجعلنا نضع أيدينا على أعيننا تارة، وعلى رؤوسنا تارة أخرى، فما نراه يثير الغيرة والحسّ الإنساني في دواخلنا، ويثير التعجّب والاستغراب، بل الحزن والأسى أكثر من ذلك.

 

قبل عقدين من الزمن كنّ بعض المثقفات يكتبن مقالاتهن وأشعارهن تحت أسماءٍ مستعارة، خشية العادات والتقاليد التي قيّدت المجتمع آنذاك، وكنا نتساءل متى تذبلُ وتتلاشى تلك الأفكار وتتغير تلك العادات، وشيئاً فشيئاً تغير كل شيء، وانفكت القيود، لكن القيم انفلتت، وانحدرت الأخلاق، وأصبحت الأسماء المستعارة صريحة، ولكن لا أحد يراهن، حتى وهنّ يظهرن أمام أسمائهن الصريحة التي تحملُ معها العلم والأدب والثقافة والاحترام، بعد أن اكتسح الساحة تلك الوجوه النكرة، وبأسماءٍ صريحة، لا تحملُ علماً ولا فكراً ولا تربية، ولا حتى أخلاق أو اعتبار لأي قيم.!

 

عندما نستعرض أحد تلك البرامج، سنجد طفلة لم تتجاوز الخامسة عشرة، تحاور وتناقش شباباً وفتيات، بل وحتى كباراً في السن، في تفاهاتٍ لا تهم حياتها، ولا حتى مستقبلها، وبحركة بسيطة من إصبعك، تظهر لك خمسينية تضع “الكمام” على جزءٍ من وجهها وقد لطّخت ما تبقى منه بألوانٍ متعددة لم تكفِ عن استخدام الفلاتر ومحسنات الصورة، وتُطل وهي أيضاً بلا محتوى يذكر، وليس لديها سوى مناكفة المتابعين وتبادل السباب والشتائم، أو ممارسة الرقص وسماع الشيلات التي هَوَتْ بكل الفنون.

 

وبالمقابل.. يُطلُّ عليك شبابٌ في عمر الزهور ورجالٌ وشيوخٌ أيضاً، ليس لديهم أي شيْ سوى الظهور من أول الليل حتى ساعات النهار الأولى، ثم يخلدون للنوم حتى المساء، ثم يتحجج الشباب بعدم وجود فرصٍ وظيفية وهم بذلك يشغلون أنفسهم بالظهور في البث المباشر على تلك البرامج، وكأنهم ينتظرون تلك الوظائف تأتي لتوقظهم وتأخذ بأيديهم إلى مستقبلهم الذي لم يفكروا به حتى الآن.

 

ولو سألنا.. ما الذي جعل تلك الوجوه التي ظهرت بلا محتوى، أو فكرٍ ناضج، تدافع عن تفاهاتها بكل ثقة، وتتحدى بكل قوه، وتنطلق دون أن تلتفت لأي اعتبارٍ لـ “الدين” أو “التربية” أو “الأخلاق” أو “الحياء”؟!!، في اعتقادي أن السبب يندرج تحت ثلاثة أمور مرتبطة ببعضها، يأتي في مقدمتها:
ـ سوء التربية: وذلك بانعدام التوجيه الذي يعمق الثقة بين الأبناء ووالديهم، والملاحظة والمتابعة لمدى التزام الأبناء لتوجيهات أهلهم داخل المنزل وخارجه، والقدوة التي تبدأ من المنزل بالطبع، والعقاب الذي يندرج ضمن الواجب التربوي للوالدين.
ـ ثم قلّة الوعي والثقافة: فلو أدرك أي شخصٍ ممن يظهرون خلف كاميرات الهواتف المتنقلة رجلاً أو امرأة إلى أنه سيكون محلاً للتّندُر والسخرية، وأنه لن يحقق نجاحاً يعود عليه وعلى مستقبله بالنفع، وأنه يضيّعُ وقته وفكره وجهده فيما لا فائدة منه، وأن السرور والارتياح التي يشعر بهما خلال تلك اللحظات وقتيّة ستختفي هي والفوائد التي يعتقدها – حسب وجهة نظره إن وجدت ـ ويتحجج بها خلال فترة وجيزة لن تُخلف له إلا  الأسى والندم.
ـ ثم الفراغ: وهذا سبب للكثير من المشاكل في حياتنا على اختلاف الأعمار، وعلى الرغم من أنها حجّة “الضعفاء” و “البلداء” مع احترامي للجميع، إلا أن البعض جعلها شمّاعة يعلق عليها سوء استثماره لوقته فيما ينفعه.

 

هؤلاء “المجاهيل” يعتقدون ـ خطاً ـ أن الشّهرة تستدعي الانسلاخ من المبادئ والقيم وعدم احترام ذائقة المتلقي، وقبل ذلك احترام ذواتهم، وفي الواقع نرى عدداً من “المشاهير” من الجنسين، نجحوا في الظهور، ونجحوا في تقديم محتوى لائق، ونجحوا في استقطاب المتابعين لهم، بعيداً عن ابتذال أنفسهم، ملتزمين باحترام من حولهم، وهنا يتضح بأن الخلل ليس في الهدف، بل في طريقة الوصول إليه.

 

وهنا يتأكد لنا أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن ترك الحبل على الغارب نتائجه وخيمة، وأن المشوار طويل أمام أولئك “المجاهيل” حتى يستشعروا أنهم على الطريق الخطأ، وسيكتشفون ذلك متأخرين، في الوقت الذي لن يستطيعوا فيه تصحيح مسارهم، فقد خسروا “غالباً” الزمن والسمعة وشيئاً من المستقبل.

 

تغريده: مالا يدركه مشاهير “الهبّات” أن تلك الشهرة وقتيّة، ستمر كشمس نهار، وسيفاجئوا بأنفسهم في ليلٍ حالِكْ، لم يتزودوا قبله بما ينير لهم دهاليز تلك الظلمة.!!

*رئيس التحرير

زر الذهاب إلى الأعلى