يكتبون

من “مرارة” الإرهاب.. إلى “عدالة” القضاء*

المملكة العربية السعودية من أكثر الدول التي تجرعت مرارة الإرهاب، واكتوت بناره بعد أن استهدف تنظيم القاعدة الإرهابي مواقع حيوية ورموز هامة في البلاد منذ أواخر التسعينات الميلادية، وساهمت المملكة ولا تزال تعمل على مكافحة الإرهاب، والتصدي له، والسعي للقضاء عليه، وتسخير كافة الوسائل التي تساعد اجتثاثه، كما عملت مع المجتمع الدولي على محاصرته، وتفكيك خلاياه، وتبادلت المعلومات بما يضمن الاستقرار والسلم العالمي، وقد نجحت تلك الجهود المخلصة، وشهد الجميع بكفاءة رجل الأمن السعودي في مواجهته، وفي المقابل فقد سعت المملكة إلى اتخاذ تدابير وخطط استراتيجية لمواجهة تلك العمليات الإرهابية، ووضع الخطط الوقائية لمنع المزيد من هذه الجرائم، وقد عبّرت المملكة عن موقفها من الإرهاب في العديد من المحافل الدولية والمؤتمرات، مؤكدة على ضرورة التصدي لهذه الآفة الخطيرة بحزم، وأهمية تكاتف جميع الدول والشعوب لمواجهه الإرهاب بشتى صوره، وأشكاله، وألوانه، حيث كان دور المملكة في محاربة الإرهاب دور محوري بإجماع العالم، حيث أنّها من أوائل الدول التي عانت وتضررت من الإرهاب، إلى ان استطاعت عبر استراتيجية أمنية وفكرية التصدي لهذه الظاهرة، وانحسارها ليس في المملكة فحسب، بل في دول العالم.

وقد صدر نظام مجلس الأمن الوطني السعودي بالمرسوم الملكي الكريم رقم أ/296 وتاريخ 13 رمضان 1426ه، الذي يهدف إلى المحافظة على مصالح الدولة الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وحمايتها وسلامة شعبها، ثم صدر بعد ذلك “نظام مكافحة الإرهاب وتمويله”، والذي عرّف “جريمة الإرهاب” في المادة الأولى منه بأنها: “كل فعل يقوم به الجاني تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بشكل مباشر أو غير مباشر، يقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر، أو تعطيل النظام الأساسي للحكم أو بعض مواده، أو الإساءة إلى سمعة الدولة أو مكانتها”، كما جاء بالمادة نفسها في الفقرة (ب) تعريف “جريمة التمويل” بأنها: “كل فعل يتضمن جمع أموال، أو تقديمها، أو أخذها، أو تخصيصها، أو نقلها، أو تحويلها أو عائداتها كلياً أو جزئياً لأي نشاط إرهابي فردي أو جماعي، منظم أو غير منظم، في الداخل أو في الخارج، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر من مصدر مشروع أو غير مشروع أو القيام لمصلحة هذا النشاط أو عناصره بأي عملية بنكية أو مصرفية أو مالية أو تجارية، أو الحصول مباشرة أو بالوساطة على أموال لاستغلالها لمصلحته، أو للدعوة والترويج لمبادئه، أو تدبير أماكن للتدريب، أو إيواء عناصره، أو تزويدهم بأي نوع من الأسلحة أو المستندات المزورة، أو تقديم أي وسيلة مساعدة أخرى من وسائل الدعم والتمويل مع العلم بذلك؛ وكل فعل يشكل جريمة في نطاق إحدى الاتفاقيات الواردة في مرفق الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب”، وقد تم إسناد الاختصاص القضائي، والنظر في مثل هذه القضايا إلى المحكمة الجزائية المتخصصة، وتخصيص دوائر في محكمة الاستئناف للنظر في أحكام المحكمة الجزائية الخاصة.

والمملكة لا تواجه الإرهاب بالإرهاب، فهي تتعامل معه بأسلوب المكافحة وليس الحرب، والمكافحة تقتضي التمييز بين “الإرهابي المجرم” الذي يقوم بأعمال إجرامية فيقتل الأبرياء، ويخل بالأمن، حيث يحال إلى القضاء الذي يحكم فيه بشرع الله، و “الإرهابي المضلّل” الذي انخرط مع الإرهابيين نتيجة لإيهامه بمشروعية العمل الإرهابي، وإقناعه بأنّ هذا العمل هو الجهاد، فإن سلَّم نفسه أو قبض عليه فإنه يُعرض على المناصحة، ويجري الحوار بينه وبين العلماء والمختصين، فإن تراجع وأبدى اقتناعاً وتعهد بعدم العودة، فيعفى عنه وتوفر له الحياة الكريمة، أما إذا ظل على غيِّه فإنه يحال إلى الشرع ليحكم فيه.

وقد تم تنفيذ حملة “السكينة” لتعزيز الوسطية، والتي بدأت بجهود شباب سعودي متطوع، وتشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية، وتهدف إلى التواصل مع أصحاب الأفكار المتطرفة على شبكة الإنترنت، من أجل مناصحتهم وتصحيح أفكارهم الخاطئة، ونقد مقولاتهم الأساسية والمفاهيم المركزية التي يعتمدون عليها، وقد نجحت الحملة بالحوار مع أكثر من خمسة آلاف شخص، تراجع منهم نحو ألفي شخص، بعضهم تراجع وتغيرت أفكاره وتوجهاته جذرياً، والبعض الآخر بنسب متفاوتة.

والمملكة لم تشأ لنفسها أن تكن طرفاً في الصراع مع الإرهابيين بعد القبض عليهم، بل جعلت الطرف الآخر هو العدالة، حيث يتم عرضهم بعد القبض عليهم على القضاء، ويتم إعداد لائحة الدعوى بحقهم، وترك القضاء النزيه والمستقل والعادل يطبق شرع الله فيهم من دون تدخل أو ضغط، فيما تبذل المملكة جهوداً حثيثة من أجل تصحيح مفاهيم بعض المغرر بهم، حيث أتاح النظام للتائبين من الإرهابيين فرصة الإصلاح، حيث نصّت المادة (27) من نظام مكافحة الإرهاب على أن تُنشئ وزارة الداخلية دوراً تسمى “دور الإصلاح والتأهيل”، تكون مهماتها الاعتناء بالموقوفين والمحكوم عليهم وتسهيل اندماجهم في المجتمع، وتعميق انتمائهم الوطني، وتصحيح المفاهيم الخاطئة لديهم.

وقد أنشأ مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، ويُعتبر المركز مؤسسة إصلاحية تربوية تعنى بتنمية المهارات المعرفية والسلوكية من خلال مجموعة من البرامج التي يقوم عليها نخبة من أصحاب العلم والخبرة في التخصصات العلمية المتنوعة، ليكون أُنموذجاً عالمياً لتحقيق الأمن الفكري، المرتكز على وسطية الإسلام وتعزيز روح الانتماء الوطني، ليحقق الرسالة التي ينشدها وصولاً إلى مجتمع يطبق الوسيطة والاعتدال فكراً وسلوكاً، والإسهام في جهود الوقاية من الأفكار المنحرفة وإصلاح الفئات التي وقعت في براثنها من خلال برامج علمية وعملية متخصصة، ويهدف إلى الإسهام في نشر مفهوم الوسطية والاعتدال ونبذ التطرف والأفكار المنحرفة، وتحقيق التوازن الفكري والنفسي والاجتماعي لدى الفئات المستهدفة، وإبراز دور المملكة في مكافحة الإرهاب والتصدي للأفكار المنحرفة والضالة ورعاية وإصلاح أبنائها، والتعرف على نوعية الانحرافات الفكرية، وتأهيل الفئات المستهدفة للاندماج التدريجي في المجتمع ورعايتهم، والتواصل مع أسرهم وتقديم المساعدة لهم، وينفذ المركز برامج للرعاية والتأهيل سعياً لتعزيز السلامة الفكرية للمستفيد وإكسابه المهارات التي تسهم في إعادة اندماجه في المجتمع وليعود عضواً صالحا يؤدي دورة الاجتماعي بكفاءة واقتدار ، ويتكون البرنامج من أربعة مكونات برامجية رئيسة هي: “البرنامج التعليمي- والتدريبي والمهني والرياضي والثقافي والبرنامج المفتوح”.

وقد شهدت الأحكام القضائية الأخيرة بحق الإرهابيين جانباً مهماً في عملية التصدي لتلك الجرائم الكبيرة، دون التفرقة بين أحد، وبغض النظر، مهما كان الشخص، أو الفئة، أو الجماعة، إضافة إلى ما تحمله تلك المحاكمات من عدل، وإنصاف، ومساواة بين الجميع، وحفظ حقوق المتهمين، والعمل على توفير ضمانات التقاضي لكل من يمثل أمامها، كالسماح لهم بتوكيل محام، ووجود مراقبين من هيئة حقوق الإنسان.

وقد جاءت أحكام القضاء متنوعة العقوبات بحسب تنوع الأفعال الإجرامية، حيث تُنظر قضايا الإرهاب أمام المحكمة الجزائية المتخصصة وفقاً للاختصاصات الجديدة وتفاوتت الأحكام بين حد القصاص والحرابة والسجن مع المنع من السفر، ويتم الاعتراض على الأحكام التي تصدر ضد الإرهابيين أمام محكمة الاستئناف وفقاً لنظام الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات الشرعية خلال ثلاثين يوماً من تاريخ العلم بالحكم، وهي أحكام محايدة مستقلة تقرر باستقلال تام مدى إدانة المتهم من براءته، ودرجة عقوبته، حتى لو خالف ذلك دعوى وطلبات الادعاء العام، وهو ما نراه واضحاً من خلال اعتراض المدعي العام على الكثير من الأحكام الصادرة بالبراءة أو بتقرير العقوبة.

إن المملكة حكومةً وشعباً تحترم الأحكام القضائية؛ لأنّ القضاء في المملكة لا يعتمد على الأهواء، بل على نصوص من الكتاب والسنة، ومع هذا فالقاضي ليس معصوماً من الخطأ، لكنه منزّه عن الأهواء، خصوصاً وأنّ هناك إجراءات رقابية، فالحكم قابل للاستئناف والنقض، وعلاوة على ذلك، فإنّ لرئيس المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا نقض الحكم إذا تبين أنّ هناك ما يستوجب نقضه.

وقد يرى البعض أنّ في بعض الأحكام ليونة وسهولة، لكن القضاء له نظرته ورؤيته التي لا نعلمها، كما أنّه من المؤكّد أنّ القضاء لديه حيثيات تخفى على الكثيرين، وما نرجوه هو أن تكون هذه الأحكام رادعاً وزاجراً لكثير ممن تلطخوا بالأعمال الإرهابية، أو لمن تسوّل له نفسه الوقوع في مثل هذه الأعمال المشينة، وإحالة الإرهابيين للقضاء وصدور تلك الأحكام ضدهم يمثل العدالة المنصفة، فلا عقوبة من غير حكم قضائي مكتسب للقطعية، وبحضور هيئات وجمعيات حقوق الإنسان وكفالة حق المدعى عليه في الاستعانة بمحامٍ، والمحاكمات كانت عادلة ومنصفة وحازمة ومتوافقة تماماً مع الأصول القضائية وحفظ حقوق المتهم، والأحكام التي صدرت مؤخراً تتوافق مع النظام، وتتناسب مع حجم الجرم المرتكب وستكون رادعاً لمن يسلك طريقهم.

تغريده:
يجب ألا تأخذ البعض عاطفته أو ميوله وأهواؤه بعيداً عن الحقيقة التي يدركها كل ذي عقل، وإن لم يفصح عنها أو يعترف بها، فالإرهاب لادين له، ولا يستند لمبدأ.. وهي الحقيقة التي صُرفت انظار شبابنا عنها، فلم يروها إلا بعد أن وقعوا ضحايا لتلك المؤامرات الدنيئة المتوحشة.

* رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. قلت فأفدت وتحدثت فأبدعت وقلت كل ما يجب أن يقال
    عن هذا الأمر ومعالجته الحكيمة في هذه البلاد التي ميزها الله بالقيادة الراشدة التي تعي تماما كيف تدار الأمور وبوجود الحرمين الشريفين وباللحمة القوية بين الشعب وقيادته وثقتهم المطلقة في قادة البلاد .
    وفقك الله وسددك أستاذي الكريم محمد آل دوسري .

    أبو عبدالعزيز
    كوالالمبور

زر الذهاب إلى الأعلى